> لم يتجادل اثنان، في أن غالب أهل دارفور، يدركون أن ما بين أيديهم من فوائد وعوائد جمَّة، وثمرات قطفوها من الحكم الاتحادي الحالي، والوضع الراهن وهم ينعمون بولاياتهم الخمس، وما تحقق من تنمية وخدمات ومشاركة سياسية واسعة، وتنوع في الطيف الحاكم، ويدرك هؤلاء أيضاً أن العودة لخيار الإقليم ستتقهقر بهم إلى مزالق الحكم الإقليم ومساوئه السابقة، ولم تكسب دارفور من الحكم الإقليمي وتجربته من فترة مايو حتى سنوات الإنقاذ الأولى شيئاً مذكوراً، إنما زادت حدة الضغائن والتنافس القائم على أساس عرقي وقبلي، أُلبس ثوب السياسة المهترئ. وليس هناك من منطق سليم راشد، يريد العودة بأهل دارفور إلى نظام الإقليم الواحد، فقد كانت دعوة الحركات المسلحة إليه تقوم على قِصر نظر وعدم إلمام بالحقائق الموضوعية لتطور أنظمة الحكم وكيفية معالجة عدم التوازن التنموي والخدمي، وكثير من الحركات تنحا إليه منحاً عاطفياً دون تمحيص أو دراسة وافية وربما تكون المماحكة السياسية والبغضاء التي صنعتها الحرب والمواجهات هي السبب الرئيس في طرح الحركات لخيار الإقليم، وكانت هناك فئات ومجموعات في الداخل تحرك وتؤيد رأي الحركات المتمردة في طرح فكرة الإقليم، على مظنة أنه في حال اعتماد هذه الفكرة أو الرجوع إلى هذا الخيار، ستجد هذه المجموعات والنخب السياسية نفسها مرة أخرى في قيادة دارفور كوحدة سياسية وإدارية واحدة، وهناك من ربط مصير دارفور في حال عودتها إلى الإقليم بقضية جنوب السودان، وكان جون قرنق رئيس الحركة الشعبية الداعم الأكبر للحركات المتمردة، وما يسمى بقوى الهامش، يريد استغلال هذه التوجهات لدى بعض النخب الدارفورية ودعواها وتحالفاتها مع الحركات المتمردة للضغط على المركز وتجميع ما يسمى بقوى الهامش للركوب على ظهرها وحكم السودان عن طريق الأغلبية التي ستكون لها..
> ولا تخفى الإشارة هنا، إلى أن تياراً في حركات دارفور المتمردة من قصيري النظر ومؤيدي الحركة الشعبية في جنوب السودان، يطمح إلى استنساخ تجربة الجنوبيين والدخول إلى «جحر الضب» خلفهم، بطرح فكرة تقرير المصير في حال عادت دارفور إلى الإقليم، وسبق أن طرح مني أركو مناوي وعبدالواحد محمد نور وخاملو الذكر من قادة الحركات الدرفورية، هذه الأفكار، ودعوا إلى فكرة تقرير مصير، غير أن هذه الفكرة والدعوات ذهبت أدراج الرياح بسرعة مذهلة لأنها لا تتوافق مع طبيعة وتاريخ ومزاج أهل دارفور، وهي جزء لا يتجزأ من السودان، بل هناك فرية انطلقت حتى على بعض الناس في أوساط وشمال السودان بأن دارفور لم تنضم للسودان إلا في العام 1916م بدخول قوات المستعمر الإنجليزي الفاشر وإسقاط سلطنة الفور في واستشهاد السلطان علي دينار، والحقيقة أن دارفور ظلت جزءاً من السودان سواء أكان بحدودها الحالية التي تبلور جزء منها منذ العهد التركي المصري في القرن التاسع عشر الميلادي، وحكمت سلطنة الفور في عهود سابقة أجزاء كبيرة من أوساط السودان وشماله قبل الحكم التركي المصري الذي بدأ عام 1821م، والصحيح هنا أن دارفور ظلت الجزء المستقل والحر في السودان حتى عام 1916م حيث حافظ السلطان علي دينار عليها بعد سقوط المهدية في الثاني من سبتمبر 1898م وأعاد حكم السلطنة حتى سقوطها بعد تحالفه مع الخلافة العثمانية في تركيا خلال الحرب العالمية الأولى وشعر الإنجليز وحلفائهم بخطورته عليهم مما دفع لغزو دارفور واستعمارها.
> ما يهمنا في هذا القول، إن خيار الإقليم، لم يكُ في يوم من الأيام خياراً جاذباً لأهل دارفور. فما وجدوه من فائدة كبيرة نتجت عن نظام الولايات، لا يمكنهم التفريط فيه بالعودة إلى مركزة السلطة مرة أخرى في الفاشر، ولعلمهم الدقيق أن مستوى رابع من السلطة لا يمكن إقراره، أن يقوم الإقليم في وجود الولايات، ففي حال يام الإقليم ستحل الولايات، وسيجمع الإقليم ويخذ سلطات الولايات ومواردها وأموالها، سيكون هناك حكومة إقليمية واحدة ومستوى الحكم المحلي الحالي في المحليات، وهذا سيخلق اختلالاً هائلاً في حكم دارفور كلها وسيحرم كل سكان المحليات ومناطق الولايات التي ستلغي أية صلة مباشرة مع الحكومة الاتحادية في الخرطوم، وسيخلق هذا الوضع في حال قيام كارثة كبرى في التنمية والخدمات والأمن والاستقرار وردة كبرى عن اتساع المشاركة السياسية والتي ستضيق إلى مستوى تكون فيه أضيق من سَمِّ الخِياط ..!!
> ولذا.. فإن الوعي الذي يتميز به أهل دارفور ونتاج خبرتهم السياسية الطويلة كمنطقة تعرف قيمة الحكم وتتعاطى السياسة وتتنفس هواءها، هو الذي يعصمها من الوقوع في براثن الإقليم مرة أخرى، وسيكون خيار الولايات حسب ما تقول كل التوقعات والقراءات الموضوعية سيكون هو الخيار الغالب والفائز من خلال الاستفتاء الإداري الذي سينطلق خلال إيام قليلة تعد على أصابع اليد..