حكى لي أحد الولاة أنه قام بزيارة ﻷحد مشائخ الطرق الصوفية الزاهدين، الذين أداروا ظهورهم للدنيا ولعاعها وعرضها الزائل، وبعد أن تجاذبا الحديث عن الشأن العام، سأل الوالي، ذلك الشيخ الورع إن كانت بهم حاجة فيقضيها لهم، قال الوالي (جينا نتفقد المسيد عشان كان في حاجة ناقصة نعملا)، فرد الشيخ الورع الزاهد بلغة بسيطة وموجزة: (بارك الله فيك يا ولدي، نحن ماكلين وشاربين من فضايلو، ما تخاف علينا تب، بس نوصيك علي نفسك)- يقصد خاف على نفسك، وابقى عليها عشرة، ما تخاف علينا نحن – أقر لي ذلك الوالي بأن تلك العبارة التي سمعها من الشيخ، كانت نقطة تحول كبرى في حياته، فأصبح يخشى على نفسه من حساب الله في كل خطوة ينوي فعلها، وقال خشيتي على نفسي كانت تردعني وتسبق شفقتي على الرعية، وقال إنه تعلم من تلك الكلمات الحكيمة البسيطة الموجزة ما لم يتعلمه عند الواعظين والدعاة، وأحاديث المساجد، لإحساسه بصدقها…
أنا على يقين راسخ أن الحاكم الذي في نفسه شيء من الصلاح سيجعل الله استفاقته من سكرة السلطة، قبل أن يفارق كرسيها الوثير، وصولجانها المثير، وسيعتبر ممن سبقوه، أو ربما مجرد رؤيا منامية تهيله فيخبت، ويرجع عما كان عليه من ظلم وطغيان وتحدث نقطة التحول في حياته، فيتحول من غافل إلى منتبه، ومن سلطان جائر إلى أمير عادل، ومن ملك متهور إلى حاكم لا تنقصه الأناة والحكمة، لكن من لم يحعل الله له نوراً فما له من نور..
وبالمقابل كانت نقطة التحول في حياة عمربن الخطاب، يوم أن تولى شؤون الحكم، فخشي الله في خلواته فانهملت بفعلها دمعاته على خده مدرارة، وما تراه إلا قائلاً: (ويلك من الله يا عمر، ما تقول لربك يوم القيامة ؟!)، أو قائلاً: (ليت أمك لم تلدك ياعمر) فيرق للرعية ويلين قلبه لها، فيجوع لتشبع، ويسهر لتنام، ويشقى لترتاح، ويقف على مصالحها، ما لا يفعله لنفسه وولده وأهل بيته فزهد الدنيا، وعف عن مال المسلمين فعفت رعيته، وأفقرته السلطة، ونحلت جسمه كما فعلت بصاحبيه أبي بكر وعثمان.
أما نقطةُ التحول في حياة عمر بن عبد العزيز كانت يوم أن فُتِحَتْ زخارف الدنيا كلُّها بين يديه، وقال المؤرخون أن هذه اللحظة التي تضعُف فيها النفوس كانت نقطة الاستفاقة في حياة عمر، فخاف أعظم ما يكون الخوف، وعدل أحسن ما يكون العدل، لقد خاف عمر ولم يكن خوفه إلا من الله، فلم يكن بينه وبين الله أحدٌ من الخَلْق يخشاه، حتى عندما وصل نبأُ وفاته إلى إمبراطور الروم الذي كان خَصمًا عنيدًا لدولة الإسلام، بكى بكاءً شديدًا أذهل حاشيته، فسألوه عن ذلك، فأجابهم: ماتَ والله رجلٌ عادلٌ، ليس لعدله مثيلٌ، وليس ينبغي أنْ يَعجبَ الناس لراهبٍ ترك الدنيا؛ ليعبدَ الله في صومعته، إنما العجبُ لهذا الذي أتته الدنيا حتى أناختْ عند قدمه، فأعرض عنها.
أما الذي نفسه بغير صلاح حتماً سيقيض الله له بطانة سوء تزين له سوء عمله فيراه حسناً ويجعل الله في أذنيه وقراً، فلا يسمع إلا كلمات الثناء والإطراء والباطل الذي يرى من خلاله الحق باطلاً، وعلى قلبه أكنة فلا يعقل الحق حتى يلقى الله بغتة…
اللهم هذا قسمي فيما أملك، فإني لا أملك إلا قلماً ..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين.