رحل قبل عامين، شاعر السودان العظيم محجوب شريف.. كانت قصيدته الأخيرة بتوقيع الشعب، الذي بادله حباً بحب.. عاش محجوب هذه الحياة بطولها وعرضها، ورحل، دون وجل من عاصفة المنون، حيث لا يخلد في هذه الدنيا أحد..( والآخرة خيرٌ وأبقى).. مضي محجوب شريف إلى الرفيق الأعلى بكامل الرضا، وفي حُلّة لم تفارقه أبداً.. حُلّة نسجها من إخلاصه ووفائه للوطن وللإنسانية، ولمشروعه النبيل الذي نذر له نفسه، باذلاً وناشراً في الأجيال أشرعة الأمل، ومناهضاً للظلم، وصادحاً بكلمة الحق الطيبة.. محجوب شريف، من بين قلائل في هذا العالم تمكنوا من إنجاز مشروعهم في محبّة النّاس.. الحياة حق، والموت حق، وحياتنا هذه القصيرة، ليتها تُعاش كما عاشها محجوب شريف، الذي لم يقف موقفاً يستحي منه.. كان رجلاً صميماً ليس فيه تصدعات أو شروخ : ( العودو خاتي الشّق، ما قال وحاتك طَق).. وحقٌ له أن يفخر.. ماني الوِليد العاق، لا خُنتا لا سرَّاق، والعسكرى الفرَّاق، بين قلبك الساساق و بيني، هو البِنْدَم، والدايرو ما بِنْتَم)..! كان شاعراً انساناً، متسقاً مع مبادئه، يفعل ما يقول ويقول ما يفعل و لا يُعَّرف بقبيلة أو بجهة أو حزب.. لقد جسَّد في ابداعه ألق السودان (سمسماً وبفره، سكراً وشاي.. وكلو عندو دين ، كلو عندو راي).. الحديث عصيّ عن رجل مثل محجوب شريف الذي قال كلمته ثم مضى، ولو قدر له أن يعود، لما أختار غير المنافحة عن الكادحين، ولما وقف غير مواقفه الصلبة ضد الظلم والظالمين.. كانت ولا تزال، صميمية محجوب غير مريحة لثلة من ضعاف النفوس، الذين إن طاب لهم ما تفعل، أو اذا مدحوك بلذيذ كلام، فعليك أن تتحسس ضعفك و مواطئ قدميك.. محجوب شريف الذي قهر السجن والمرض كان دائماً بخير، كان محجوباً عن الظالمين ، ومحبوباً لدى البسطاء الأوفياء، ومذكوراً بالخير في مجالس أهل الصفاء، و لا نُزُلَ له، بين من (دخلوها وصقيرا حام)، و لا واصل بينه و أهل الدنيا الذين باعوا حيواتهم بأثمان بخسة، دراهم معدودة، و فَتَات..فأعرف حالك / نفسك يا سيدي، تعرف الله.. تلك هي الحكمة الخالدة..
رحيل محجوب شريف ترك في الحلق غصة.. طافت الذكرى، وطاف الطيف.. لقد رحل الكثير من مبدعي بلادنا خلال هذا العهد الغيهب ..رحلوا مشفوعين بدعوات الطيبين، بينما لم يفتقدهم أهل الخيلاء في المدينة.. رحلوا وقد كانت لهم ذكرى عطرة، وجدائل من دموع صادقة سخية.. كان محجوباً شريف، محجوباً عن كثيرين، مثلما كان أويس القرني.. كان قامة سامقة لا تقل عن نيلسون مانديلا، مثلما كان محمد وردي، لا يقل شأواً عن زوربا، أو محمد عبد الوهاب،، ولكنها شقوَتنا، و قسوتنا على أنفسنا، وقسوة دولتنا علينا..! لقد وهبنا الله خيراً كثيراً.. نحن نعرف كيف نصنع الجمال، لكن زهدنا عجيب، في تقديم أنفسنا الى العالم.. نحن أهل بلوى مستعصية في نظامنا السياسي المشحون بالغلواء، وصاحب الغلواء لا يعي أن المبدعين الصادقين، لا يمكن أن يصدحوا إلا بنشيد الحرية..لا هذه الحياة رحلة، قطعها شاعرنا محفوفاً بحب الناس، و رضع منهم البساطة والصبر والقدرة على الاحتمال.. كان رجلاً لا يعرف المستحيل ولا الكراهية.. لقد بذل حياته كلها من أجل الحق والعدل والجمال.. كان محجوب شريف، لسان حال السوداني كما ينبغي أن يكون..إنه شاعر الشعب ، الخالد فى ذاكرة الأجيال.. قال عبد الغني النابلسي :ــ
( كل من يعرض عنا هو في نار الجفا ** والذي يرغبُ فينا، كُفِرتْ عنه الذنوب)..