طه النعمان : جدل الهوية.. في ميزان المعارف العلمية!

٭ حوار هو الأكثر رصانة والأشد رسوخاً.. ذلك الذي أجرته محررة «السوداني» إيمان كمال الدين مع الباحث في العلوم وفلسفتها د. محمد قرشي عباس السبت 62 مارس.. رصانة بما يترتب عليه من تصورات مستنيرة.. تتصل بعلوم الاجتماع والأنتروبولجيا والتاريخ والهوية.. ورسوخ علمي ـ معرفي يتصل بحسم جدل طويل رافقته فتن وإحن تتصل كلها بالمعتقدات اللا علمية الخاطئة.. في التمييز بين البشر بحسب اللون أو الشكل الخارجي الذي جاءت الكشوفات المعملية الحديثة في الأصول الجينية وتسلسل الأنساب لتؤكد خطلها وبطلان ما بُنى عليها من تراتبيات عنصرية.. تصنف البشر (عرقياً وخلقياً) بين أعلى وأدنى.
٭ د. محمد قرشي من المتابعين، بل والمشاركين في ما يعرف بـ «مشروع السودان للفحص الجيني».. وهو مشروع قائم على مبادرة أهلية سودانية بين بعض علماء ومهتمين سودانيين.. لتنظيم الفحوصات الجينية السلالية، التي تتكفلها شركة أمريكية تسمى «شجرة العائلة للفحوصات الجنينة» ـ Family Tree DNA ـ وهي مختصة بأخذ العينات وتحليلها.. وفاق عدد زبائنها حتى الآن الميلون، بحسب د. عباس.
٭ النتائج الأولية لهذا المشروع كما طرحها د. عباس تهمنا في السودان بشكل خاص، نظراً لما تعيشه بلادنا من متاهات في جدل عقيم حول هوية السودان والإنسان السوداني.. والانقسام الجهول حول هل نحن عرب أو
أم أفارقة.. وهو ما رفضناه من خلال هذه الزاوية في أكثر من إضاءة، لما رأيناه فيه من عبثية السؤال وغوغائية الإجابة أياً كانت.. شرق البحر الأحمر أم غربه!
٭ من الحقائق الجوهرية.. التي لا تشكل بالضرورة اكتشافاً جديداً في حد ذاتها.. ولكنها تهمنا نحن المنغمسين في تلك المتاهة.. والتي أكد عليها د. عباس هي:
أولاً: أن الإنسان.. الإنسان من حيث هو إنسان.. هو النوع (الكائن) الوحيد الذي لا يحتوي على (أعراق منفصلة) بالتعريف الجيني.. يعني كما يقول هدينا الديني (كلكم لآدم وآدم من تراب).
ثانياً: التباين اللوني والشكلي لبني البشر هو نتيجة طبيعية لما يعرف بـ «الكيف البيئي».. وفي هذا أكدت البحوث العلمية الموثوقة أن الأوربيين الأوائل ـ مثلاً ـ الذين سكنوا القارة الأفريقية كانوا سود البشرة.. ثم بسبب ضعف الأشعة فوق البنفسجية في المناخ والبيئة الأوربية، الغائمة أغلب الوقت، تراكمت الضغوط على اللون الأسود في بشرتهم فأعاقته من تصنيع فايتمين ( د) فتغيرت ألوانهم تدريجياً نحو الأبيض، عبر عملية تكثف بايولوجي متوالية.. وبالتالي فإن هذا «البياض» لا يحمل أي دلالة عن تفوق أو ذكاء أو أي صفات تميزهم عن البشر الآخرين.. غير الأوهام العنصرية التي تمثل تعبيراً فاضحاً عن الجهل لدى النخب أو العامة.. والتي لحسن الحظ بدأت تأخذ في الانحسار منذ نهاية الحرب العالمية الأخيرة.
٭ تجربة د. عباس الشخصية في الفحوصات الجينية.. وهو من «محس توتي» التي فصَّلها في حديثه للصحيفة.. أثبتت وصادقت على نسبه العربي «الخزرجي» البعيد.. لكن المدهش أن التركيب الجيني ـ الإثني لهذا النسب نفسه يعود بنسبة (56%) منه إلى وسط وشرق أفريقيا، بينما يتوزع بقية الـ (44%) منه على المغرب العربي والهلال الخصيب.. بما يجعل من الدكتور أكثر أفريقية رغم النسب العربي عبر الجد المباشر.. وهذا ما يبين ويوضح أن «الضاد» المفترض بين «العروبة والأفريقانية» الذي يعكسه الرأي العام ليس سليماً، وأن العرب والأفارقة هم مزيج من شعوب قديمة عبر الهجرات والمصاهرة وحركة السكان الطبيعية قبل أن يعرف العالم الحدود..!
٭ شكراً د. محمد قرشي.. كفيت ووفيت.. وأتمنى على الزملاء في «السوداني» إعادة النشر، تعميماً للفائدة.

Exit mobile version