ترليونات الجنيهات ضاعت هباءً منثوراً المشاريع الحكومية الفاشلة.. بلاغات ضد مجهولين

غموض يكتنف أموال ترعتي كنانة والرهد
توطين القمح، العلاج، السكر.. موارد تضل طريقها
مشروع سندس والنهضة الزراعية.. أحلام تتبخر
مشروعات كثيرة فاشلة بالولايات لم تدر عائدًا يوازي ما صُرف عليها
الفاتح عثمان: مخرجات ونتائج هذه المشاريع جاءت دون التوقعات

بعيداً عن تقارير المراجع العام التي ظلت تثبت سنوياً حدوث تجاوزات واعتداءات على المال العام، وقريباً من مشاريع قومية أعلنتها الحكومة ووجهت إليها أموالاً ضخمة من موارد البلاد وأموال دافعي الضرائب، فإن الحقيقة تؤكد فشل عدد غير قليل من المشاريع التي حازت على اهتمام كبير ودعم سياسي ولوجستي مقدر، لتضيع على أثر هذا الإخفاق ترليونات من الجنيهات كان من شأنها إذا تم توجيهها إلى مشاريع أخرى أن تستفيد منها البلاد التي تقف على شفا هاوية الانهيار الاقتصادي، وهنا تبرز الأسئلة، لماذا فشلت هذه المشاريع، وكم صرف عليها، وأين ذهبت الأموال، ومن يتحمل المسؤولية.

توطين العلاج.. النتيجة العكسية
وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع مضيفة تعمل بطائرة سودانية متجهة إلى القاهرة، أشارت إلى أن أكثر من 60% من الذين يغادرون العاصمة الخرطوم صوب الجارة مصر يبحثون عن الاستشفاء الذي استعصى عليهم في دولة عرفت الطب قبل 105 أعوام حينما أنشأ المستعمر كلية غردون التذكارية، وفي بلد توجد فيه أكثر من ثلاثين كلية طب.

وعلمت من المضيفة أن عدد الرحلات التي تتوجه يومياً إلى القاهرة تتجاوز العشر، وإذا افترضنا أن بكل رحلة ستين مريضاً فقط، فإن هذا يعني سفر 600 مواطن يوميًا الى القاهرة للعلاج، وفي القاهرة وقفت على هذه الحقيقية من خلال تجوالي مرافقاً لمريضتين، فكل العيادات والمستشفيات التي توجهنا إليها كانت تعج بالمرضى السودانيين، أما على صعيد الأردن فإن الرحلات تذهب يومياً إلى العاصمة عمان، وهي تحمل مرضى يبحثون أيضاً عن العلاج، وبعيداً عن العملات الحرة التي تخرج يومياً من البلاد وقريباً من مشروع توطين العلاج بالداخل فإن الدولة سعت جادة لتمزيق فاتورة السفر الى الخارج، وأطلقت مشروع توطين العلاج بالداخل والذي وجهت نحوه 150 مليون دولار، ورغم هذا المبلغ الضخم الذي صرف من الخزانة العامة، إلا أن المردود على أرض الواقع يؤكد أن المشروع سجل فشلاً ذريعاً، ولعل هروب المرضى خارجياً وداخلياً نحو المستشفيات الخاصة يعضد من هذه الفرضية.

القاش .. ابتلاع 67 مليار جنيه
ومن المشاريع التي أعلنت الحكومة اهتمامها بها “وكانت صادقة في توجهها”، تأهيل مشروع القاش الزراعي بولاية كسلا، وهو للعلم صاحب ثاني أخصب تربة في العالم بعد دلتا المسسبي بأمريكا، وبالفعل وجهت الحكومة 67 مليار جنيه لإزالة المسكيت الذي غطى 90% من مساحته التي تربو على الخمسمائة ألف فدان عالية الخصوبة، غير أن هذا المبلغ الضخم تم إهداره، وقضية أموال إزالة المسكيت بمشروع القاش التي مضت عشر سنوات على تفجرها، وأعوام على إطلاق سراح المتهمين فيها بالضمان بعد أن وجهت لهم تهمة إهدار المال العام، تعود تفاصيلها إلى العام 2005، الذي أعلنت فيه إدارة مشروع القاش عن عطاء لإزالة أشجار المسكيت بالمشروع الزراعي، وقد كان من ضمن شروط العقد أن تتم إزالة الأشجار بالآليات الحديثة، ورسى العطاء الذي كانت قيمته 40 مليار جنيه وقتها على شركة الرويان بمساحة 120 ألف فدان، في العقد الثاني لإزالة أشجار المسكيت الذي أعلن عنه في عام 2006 بمساحة تقدر بـ75000 فدان تم تقسيمها هذه المرة بين شركتي الرويان وسويتش، إلا أن نصيب سويتش كان أكثر من الرويان ويقدر بـ 40 ألف فدان، في حين أوكلت المساحة المتبقية من العقد وهي 35 ألف فدان لشركة الرويان، إلا أن الشركتين لم تنفذا بنود العقد رغم حصولهما على المبلغ المتفق عليه كاملاً، وهذا ما قاد الى تدوين بلاغات ضد عدد من الجهات والأشخاص، ورغم الخطوات القضائية التي قطعها هذا الملف، ورغم توجيه وزير العدل أخيراً بإعادة فتحه إلا أن الأيام الماضية لم تحمل جديدا بل ترددت معلومة تفيد بسحب الملف من النيابة بكسلا، ليظل مصير 67 مليار جنيه مجهولاً.

سندس.. إخفاق واضح
ومن المشاريع التي سجلت فشلاً ذريعاً أيضاً، كما تقول الشواهد هو مشروع سندس الزراعي الذي تم إنشاؤه في العام 1991م بقرار جمهوري بعد أن تم نزع الأراضي الزراعية من أهالي منطقة جبل أولياء بنسب تتراوح ما بين 40 إلى 50% لمدة ثلاثين عاماً، ابتلع المشروع منذ إنشائه ملايين الدولارات، وبعد انقضاء أربعة وعشرين عاماً من إنشائه، يبدو أنه لم يحقق أهدافه التي أنشئ من أجلها، حيث إن إدارة المشروع منذ بدايته روجت له داخل وخارج السودان بأن المشروع سوف يعود على البلاد قمحاً ووعداً وتمني، وأن كل مزارع ومستثمر بالمشروع سوف تكون له مزرعة وفيلا وغيرها من الاستثمار في المجال الحيواني، وعلى إثر ذلك ترك البعض منهم اغترابه ورجع على أمل الاستثمار بالمشروع، إلا أن أحلامهم تبددت بعد رجوعهم واصطدامهم بالواقع، فلم يجدوا غير صحراء جرداء لا تزال ماثلة.

كنانة والرهد… أحلام تتبدد
في عشريتها الأولى رفعت الإنقاذ الكثير من الشعارات التي تنازلت عنها لاحقاً، وأطلقت الكثير من المشروعات التي أكدت أنها ستضع حلاً لقضايا البلاد خاصة الزراعية ومن ضمنها مشروع ترعتي كنانة والرهد الذي وجهت نحوه أموال مقدرة من الخزانة العامة وتبرعات المواطنين، بل كونت لها لجنة مختصة بمرسوم رئاسي، ومنح القرار الهيئة صلاحيات واسعة ونص وقتها على أن تـؤول للهيئـة جميـع الممتلكات والحقوق والالتزامات والأموال التي حصلت عليها اللجان التي كونت لهذا الغرض في داخل السودان وخارجه منذ يناير 1994، على أن يتم بيان الممتلكات والحقوق والالتزامات والأموال وتدرج بدفاتر الهيئة وتبين الأرصدة في حساب منفصل للهيئة، كما يجوز للهيئة استرداد أي أموال قامت بصرفها أي جهة من الجهات من المبالغ التي تم تخصيصها من مساهمات وتبرعات لمشروعي كنانة والرهد، ولم يتم صرفها لهذا الغرض، أما فيما يتعلق بموارد الهيئة فهي تأتي من الأموال التي تم الالتزام بها من قبل الفئات والفعاليات المختلفة، علاوة على الهبات والتبرعات التي يقبلها المجلس، بالإضافة إلى ما تخصصه لها الدولة من اعتمادات، وأيضاً ما تحصل عليه الهيئة من أموال نظير خدمات أو أعمال تؤدى للغير، ونص القرار على أن تكون للهيئة موازنة مستقلة تعد وفق الأسس المحاسبية السليمة التي تقررها الدولة من وقت لآخر وتجاز بواسطة المجلس ويوافق عليها الوزير وتعرض على مجلس الوزراء لإصدار قرار باعتمادها، ونص القرار أيضاً على أن تكون للهيئة وحدة حسابية بمشروعي كنانة والرهد بموقع المشروعين وتقوم بالأعمال الحسابية الضرورية ميدانياً لرفع كفاءة تنفيذ المشروعين، أما من الناحية المحاسبية، فقد نص القرار على وجوب تقديم الهيئة بياناً سنوياً بالحسابات الختامية وأن تودع أموالها في المصارف في حسابات جارية أو إيداع، على أن يكون السحب وفق اللائحة المالية الخاصة بالهيئة، وتخضع حسابات الهيئة للمراجعة العامة سنوياً، وورد بند يلزم أعضاء المجلس وجميع مستخدمي الهيئة بمراعاة السرية في كل الأمور المتعلقة بالعمل؟ وأخيراً لا يجوز تصفية الهيئة إلا بقانون، وفي حالة التصفية تؤول إلى الحكومة جميع أموالها وحقوقها والتزاماتها، ورغم كل الأموال التي وجهت الى هذا المشروع إلا أنه فشل في نهاية الأمر. وتظل المعلومات المتعلقة بأمواله مجهولة أيضاً.

توطين القمح… النتيجة المتواضعة
“تلت للزبير، تلت للطير، وتلت للأسبير، والمزارع فاعل خير”، هذه الجملة ذات القافية الشعرية المتناسقة كانت تجري على ألسنة المزارعين بالولاية الشمالية التي استهدفتها الدولة لتوطين القمح، ومقولتهم الساخرة هذه تجسد ما انتهى إليه المشروع الذي يعتبر من المشروعات التي وجهت الدولة نحوها ما يربو على الأربعمائة مليار جنيه ـ بحسب تقديرات غير رسمية ـ مشروع توطين القمح الذي لم يفشل وحسب بل أسهم في مضاعفة فاتورة استيراد السلعة الاستراتيجية من سبعين مليون دولار في العام 1990 الى أكثر من مليار دولار بنهاية العام الماضي.

وتكمن المفارقة هنا في امتلاك البلاد لأكثر من مائة وخسمين مليون فدان صالحة للزراعة، بل عالية الخصوبة، ورغم ذلك فشل المشروع، علماً بأن القمح كان يزرع في الجزيرة والشمالية في مساحات واسعة تقترب من المليون فدان، ولكن أخيراً تراجعت المساحة المزروعة إلى 500 ألف فدان، وما تزال البلاد تستورد القمح من الخارج، وهذا يوضح أن الأموال التي تم توجيهها لمشروع توطين القمح ذهبت كتلك التي خصصت لتوطين العلاج أدراج الرياح لعدم وجود نتيجة إيجابية ملموسة على أرض الواقع، وهذا يعني أيضاً أن المشكلات التي أعاقت عمليات الإنتاج ما زالت قائمة، وما زال السودان يستورد حوالي مليوني طن من القمح، بينما تراوح الإنتاج المحلي في أفضل حالاته 500 ألف طن.

النهضة الزراعية.. صفر كبير
بدأت بالنفرة الخضراء ثم تحولت إلى النهضة الزراعية، تغير المسمى وظل المعنى واحداً دون أن يتجسد على أرض الواقع، وتشير الأرقام إلى أن الدولة وجهت 400 مليار نحو هذا المشروع، وذلك ليسهم في إزالة كافة المعوقات التي تواجه العملية الزراعية خاصة على صعيد الطرق الزراعية وإدخال التقانة الحديثة وغيرها من مطلوبات، ولكن أيضاً وبشهادة قادة المزارعين فإن هذا المشروع لم يحقق المطلوب وإن نتيجته صفراً كبيراً ويستدلون بالعقبات التي ما تزال تواجه الزراعة وتحد من نهضتها مثلما كانت قبل 1989.

توطين السكر والإغراق
من خلال البرنامج الخماسي والثلاثي، فإن الدولة سعت إلى الاكتفاء من إنتاج ثماني سلع أساسية منها السكر والحبوب الزيتية، ووجهت نحو هذه المشاريع أيضا أموال مقدرة، وكانت المحصلة النهائية أن البلاد ما تزال تستورد 800 ألف طن من السكر، بل انعكس هذا البرنامج سلباً على صناعة السكر الوطنية، وذلك بحدوث ركود غير مسبوق للسلعة المنتجة في المصانع الوطنية الستة التي كادت أن تتلف بمخازن المصانع، وذلك للإغراق الذي تعرض له السوق بالسكر المستورد المعفى عن الرسوم مقابل المنتج المحلي الذي فرضت عليه ضرائب ورسوم تعادل أكثر من 40% من قيمته.

مجرد نماذج
كثيرة هي المشاريع التي وجهت الدولة نحوها أموالاً مقدرة، غير أن الفشل كان نتيجة حصادها، فبخلاف النماذج القليلة السالف ذكرها وهي لمشروعات قومية فإن الولايات شهدت الكثير من المشروعات الفاشلة التي لم تدر عائداً يوازي ما صُرف عليها، ويتجلى هذا جلياً في معظم المشاريع التي نفذها والي سنار السابق أحمد عباس، وعلى رأسها منتجات الصادر مثل الموز وكذلك السدود التي انهارت، وذات الأمر فعله محمد طاهر إيلا بالبحر الأحمر وهو يوجه خمسة ملايين دولار لتشييد قرى نموذجية تحولت إلى أطلال ولم يستفد منها المواطنون في شيء، هذا بخلاف الصرف على السياحة التي لم تدر عائداً لخزانة الولاية، وحتى مشاريع حصاد المياه التي ظلت تنفذها وزارة السدود أثبت تقرير رسمي أخيراً أن عدداً من السدود والحفائر لم تأت مطابقة للمواصفات وهذا يعني إهدار مال عام، وذات الإخفاق تكرر في مشروع المياه بولاية شمال كردفان، وكثيرة هي الأمثلة في الولايات التي تؤكد أن أموالاً مقدرة صرفت علي مشاريع غير أنها ذهبت أدراج الرياح ولم يستفد منها.

أسباب متعددة
سألت الدكتور والخبير الاقتصادي، الفاتح عثمان محجوب، عن أسباب عدم نجاح الكثير من المشاريع الحكومية الكبرى التي وجهت نحوها أموال ضخمة، فقال: حتى نكون أكثر دقة، فإن القول بأن المحصلة صفرية لكل المشاريع التي ذكرتموها ليست سليمة، ويمكننا الإشارة إلى أن مخرجات ونتائج هذه المشاريع لم تأت متسقة مع ما صرف عليها من أموال كما أنها جاءت دون التوقعات، ويشير في حديث لـ(الصيحة) الى أنه وعلى سبيل المثال فإن مشروع توطين القمح لازمه الفشل في فترته الأولى بداعي توجيه الحكومة المال نحو الاستيراد، وفي ذات الوقت كانت تريد من المزارع المحلي أن ينتج وتشتري منه بأسعار ليست مجزية له، فكان أن انصرف المزارعون في الشمالية عن زراعة القمح، بل باتوا يستهلكون القمح المستورد، إلا أن الخبير الاقتصادي يعتقد بأن ارتفاع إنتاج القمح هذا العام إلى 40% من حاجة البلاد عكس ما كان عليه في العام الماضي (25%) يؤكد أن السياسات السابقة لازمها الخطأ. ويرى الدكتور الفاتح عثمان أن فشل النفرة الخضراء والنهضة الزراعية يعود الى أن الصرف تم توجيهه نحو التقانات الحديثة وتجاهل دعم المنتج، ويرجع كذلك الهزيمة التي تعرض لها مشروع توطين السكر الي إعفاء الوارد من الرسوم ووضعها علي المنتج المحلي، ويتساءل: ” لانعرف لصالح من تم هذا الأمر”، وجزم بتحقيق المستوردين لأرباح طائلة من إغراق السوق بالسكر المستورد، ويرى أن أسباب فشل الكثير من المشروعات الكبرى يعود لغياب الرؤية الكلية لدى صانع القرار بالبلاد، بالإضافة إلى تضارب الصلاحيات والقرارات “هذا يعفي وذاك يفرض رسوماً”.

بلاغ ضد مجهول
من ناحيته يشير الخبير الاقتصادي الحسين إسماعيل أبوجنة الى أن الدولة درجت منذ الخطة العشرية الثانية أن تخطط للاقتصاد بعقلية السياسة التي تسمى بالتخطيط الهتافي الذي تنقصه الدراسة الاقتصادية المتأنية، وفقاً لترتيب الأولويات وبرامج التمويل، ويلفت في حديث لـ(الصيحة) الى أنه واستنادًا على هذه الحقيقة تخرج المشاريع مستعجلة من رحم السياسة وتسعى الدولة لاحقاً إلى إلباسها جلباب الاقتصاد، وأضاف: ومن هنا يحدث التناقض بين الممكن السياسي وغير الممكن الاقتصادي، وعبر هذه المنافذ تتسرب موارد الدولة دون رقابة إدارية محترفة وهو ما يعرف في علم الاقتصاد بمصطلح المتابعة من أجل التقييم، وغياب هذه الحلقة يضعف منهجية التنفيذ وتتحول المشروعات من الورق الى شعارات وتبعاً لذلك تغيب المسؤولية ومبدأ المحاسبة، ليهتف الضمير الإنساني بفتح بلاغ ضد مجهول.

تحقيق: صديق رمضان
صحيفة الصيحة

Exit mobile version