في حواره المنشور أمس بالغراء (الصيحة)، كرر الأستاذ كمال عمر الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي، مقولة الترابي له (من نعم الله عليك أنك لم تذق البيرق)، وهي المقولة ذاتها التي سبق أن قالها عمر في حوار سابق مع الغراء (ألوان)، كان أول ما عنَّ لي عند اطلاعي على هذه المقولة التي كررها عمر بعد وفاة الترابي، أن أسأله ما إذا كان سيظل حفياً وسعيداً بهذه المقولة وسيحافظ على هذه النعمة الإلهية التي حفظته من أن (يذوق البيرق)، أم تراه (سيفك البيرق) من حيث لا توجد بيارق إلى الجهة التي تتوافر فيها البيارق وترفرف بكثرة، أم أنه سيبقى حريصاً على عدم تذوق طعم البيرق حتى لو اندغم حزبه في الحزب الحاكم وشارك بقوة في أي حكومة قادمة، وللمعلومية فإن عملية (فك البيرق) التي عنيناها هنا ليست بمعنى (طي البيرق)، وإنما قصدنا معناها الشعبي الذي يعني الفرار، إما هرباً من مصيبة أو جرياً نحو غنيمة..
الحقيقة أن للبيارق التي تربط في مقدمات العربات الرسمية السيادية وتتقدمها عربات السارينا سحراً وسطوةً وعظمةً، تجعل صاحبها مثل صاعد الجبل، يرى الناس صغاراً تحته، وقد اعترف بذلك مرة أحد شاغلي المناصب الدستورية الولائية بعد مفارقته المنصب وصار بلا بيرق، قال هذا السيادي السابق على رؤوس الأشهاد بعد أن صارت عربته صلعاء لا يزينها بيرق، إنه أصبح مواطن (ساكت)، لا يأبه به أحد ولا يبجله أحد، والحكمة الدارفورية القائلة (سلطة لي ساق ولا مال لي خناق)، كانت قد انتهت إلى هذه النتيجة منذ زمن بعيد، كما تشير إلى ذلك أيضاً الحكمة التي أفرزتها التجربة الإنسانية الطويلة، ومؤداها أن السلطة في حد ذاتها مفسدة، وأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، تورث الإحساس بالعظمة والقوة والجاه والسلطان، ولهذا يستمسك بها صاحبها ويستميت من أجلها بكل السبل والوسائل، وقبل الخبرة الإنسانية فقد رصد القرآن الكريم هذه الظاهرة وخصها بالعديد من القصص والآيات الكريمة، وقد رأينا ذلك عياناً بياناً في المحاولات المستميتة لأكثر من رئيس عربي سابق للبقاء على سدة الحكم، رغم الإجماع الشعبي الكاسح على رفضهم ولأهل السودان فيمن يفرض نفسه عليهم ويظل يطل عليهم رغم تطاول الزمن وتعاقب الأيام، وباختلاف وتعدد المنافذ والواجهات والوسائط التي يطل منها، عبارة وجيزة وناجزة تلخص ببلاغة هذا المشهد الرتيب الممل، إذ يقولون فيه (فلان دا عامل لينا وجع وش).