هكذا يمضي مشروع دولة الدينكا الإستعمارية في جنوب السودان على قدم وساق، ويواصل سلفاكير فرض سيادة قبيلته على الدولة الجديدة، ناسياً أن ذلك لا يعدو أن يكون انتحارا بل نحراً للدولة التي تترنح الآن تحت ضربات ابنائها الذين منّوا أنفسهم ذات يوم بالنعيم المقيم عندما يخرجون من (سطوة) الجلابة المندكورو الذين لطالما أبغضوهم والذين عبروا عن مشاعرهم نحوهم باستفتاء مشهود أجمعوا فيه على (فرز عيشتهم) من ذلك العدو اللدود الذي اعتبروه مستعمراً بغيضاً.
نعم ، لقد قالوها يوم نال السودان استقلاله في مطلع العام 1956 وصرح ناطقهم وقتها (لقد استبدلنا سيداً بسيد) وعنوا بذلك أنهم استبدلوا يوم الاستقلال السيد الإنجليزي بالسيد الشمالي، ولذلك لا غرو ألا يحتفل الجنوبيون بالاستقلال إلا بعد أن انفصلوا من الشمال وكان من الطبيعي ألا يحتفلوا بالاستقلال إلا بعد أن أخرجوا الجنوب من خارطة السودان، وما كان إجماعهم على تقرير المصير بالانفصال إلا تعبيراُ عما جاشت به نفوسهم وعبرت عنه أفعالهم طوال مسيرة وحدة الدماء والدموع بين الشعبين المتباغضين .
لقد انفجر التمرد قبل استقلال السودان وتحديداً في أغسطس 1955 فيما عُرف بتمرد توريت بالرغم من أنه اندلع في 13 مدينة ومركز في جنوب السودان في وقت واحد بل أنه تمدد من أحراش الجنوب إلى الشمال في ديسمبر 1964 فيما عُرف بأحداث الأحد الدامي التي فجّرها الجنوبيون في العاصمة الخرطوم ثم انفجر مرة أخرى بشكل أكبر وأكثر دموية في قلب الخرطوم في أغسطس 2005 بعد مصرع جون قرنق الذي لم يمت في الشمال إنما في الجنوب وفي حادث سقوط طائرة يوغندية قادمة من كمبالا ولكن الكراهية والتربص وسوء الظن جعلهم يشعلون الخرطوم وكان من أقدار الله اللافتة أن يندلع ذلك العدوان على عاصمة البلاد بعد (50) عاماً من انفجار التمرد الأول في الجنوب لكي نعلم نحن أبناء الشمال أن نصف قرن من المعالجات الغبية لمشكلة الجنوب لم تفعل غير أن فاقمت المشكلة ونقلتها من أحراش الإستوائية إلى قلب الخرطوم.
نحمده تعالى أن كشف الحقيقة التي لطالما عجزت قبيلة النعام عن الجهر بها أن الجنوب جنوب والشمال شمال ولا يمكن الجمع بينهما إلا إذا أمكن الجمع بين الشحمة والنار والليل والنهار وإلا إذا تزوج القط من الفار ودخل الجمل في سم الخياط، فقد ارتكبت بريطانيا جريمة في حق السودان الشمالي بزرع الجنوب في خاصرته التي ظلت تدمي لنصف قرن من الزمان، وأسأل الله تعالى أن يقتصها منها في هذه الدنيا وأن أرى ذلك بعيني رأسي قبل أن أغادر هذه الفانية، وهل من جريمة أكبر من تزوير إرادة الجنوبيين من خلال تزوير مؤتمر جوبا (1947) والذي أقر السكرتير الإداري الاستعماري جيمس روبرتسون أنه غيّر وقائعه ليقضي بالوحدة بين الجنوب والشمال؟.
ها هو الجنوب يترنح ويشهد حرباً أهلية أشد ضراوة من تلك التي اشتعلت بين الشمال والجنوب، وها هو التاريخ يعيد نفسه ويتكرر مشهد هيمنة الدينكا على الجنوب والتنكيل بقبائله الأخرى، فبعد الحرب التي اشتعلت بين الدينكا والنوير في جوبا وأعالي النيل الكبرى ها هي تندلع في الإستوائية الكبرى التي يقيم الدينكا في عاصمتها جوبا .
آخر ما خرج به الرئيس سلفاكير الخاضع لإرادة مجلس سلاطين الدينكا أنه وصف محاربي القبائل الإستوائية بالجرذان الأمر الذي أثار حفيظة الإستوائيين بل أثار زعيم النوير ونائب الرئيس السابق رياك مشار الذي يخوض الحرب منذ نحو ثلاث سنوات ضد سلفاكير، فقد انتقد مشار ذلك التصريح وها هي القبائل الإستوائية تتوحد مع النوير ضد الدينكا .
تدني ثقافة سلفاكير الذي لا يتمتع بأدنى مؤهلات رجل الدولة مع سلوكه البدائي الذي يجعله في كثير من الأحيان في حالة سكر لساعات طوال كل يوم كثيراً ما تحرجه وتسبب له المشاكل، فقد قال قبل سنوات خلال مخاطبة للجالية الجنوبية في واشنطون إن رجال قبيلة المورلي (الإستوائية) يخطفون أطفال القبائل الأخرى ليعوضوا عن قلة خصوبتهم ، ذلك أثار قبيلة المورلي وأدخل الجيش الشعبي الذي يسيطر عليه الدينكا في عدد من المعارك الطاحنة مع مقاتليها المعروفين ببأسهم الشديد.
أقول مناصحاً القادة والنخب الجنوبية بقبائلها المختلفة إنني والله لا أرى مستقبلاً لدولة موحدة في جنوب السودان، وأحذر كما ظللت أفعل عند معالجة مشكلة الجنوب قبل الانفصال من إضاعة الوقت، فقد أهدرنا نصف قرن من الزمان في وحدة مستحيلة بين الشمال والجنوب، ووالله أنني لأرى أن تلك الوحدة المستحيلة بين الشمال والجنوب كانت إقرب إلى التحقيق من وحدة تجمع الدينكا والنوير في وطن واحد أو وحدة تضم الدينكا والإستوائيين، وحتى لا يكرر الخطأ الذي أهلك الحرث والنسل في حرب الجنوب الطويلة مع الشمال أنصح رياك مشار ولام أكول كما أناصح بقية القيادات الجنوبية بأن يصار إلى تقرير مصير لكل من النوير والشلك في أعالي النيل الكبرى وكذلك للقبائل الإستوائية، فذلك أرحم للجنوب وإلا فليستعدوا لحروب طويلة في تلك الدولة الفاشلة لن تبقي ولن تذر، وليت هؤلاء القادة يسألون القائد المخضرم جوزيف لاقو ليحكي لهم عن تجربته مع اتفاق أديس أبابا عام (1972) والذي وحّد الجنوب وما أفضى إليه ذلك من مآلات حاول تداركها بتعديل ذلك الاتفاق.