أ.د حسن مكي : ماذا أعددتم لفواتيح الألفية الثالثة

اعتدل الضيف المهم في مجلسه وصوب نظره إلّيَّ قائلا: لقد مررت على جيل الثلاثينيات من قيادات الحركة الإسلامية والذين برزوا في الفضاء السياسي بعد ثورة أكتوبر وكذلك جيل ما بعد ثورة أكتوبر! وكذلك جيل ما بعد أكتوبر وجيلكم الذي صنع ثورة شعبان الشعبية – ولكن من ترشح لي من أبناء الألفية الثالثة الذين برزوا في ظروف ثورة الإنقاذ من الشباب ما بين الأربعين والخمسين عاما وفيهم قدرات روحية وفكرية وطاقات سياسية وحركية. قلت بصراحة لا أدري، حيث الأولى أن يوجه السؤال لمن هم في مقاليد القيادة ويشرفون على مؤسسات الدولة والحزب والحركة.
قال: لقد وجهت هذا السؤال إلى كبيركم سابقا، فأشار إلى شخصية جنوبية وتعجبت لأن هذه الشخصية ما عادت سودانية.
قلت: سبق أن كنت في صحبة مسؤول كبير في رحلة خارجية، وقلت على من تعول في أمر جنوب السودان وكان ذلك قبل الانفصال – فقال لي على د. موسس مشار، واندهشت لأن مشار هذا مجرد بيدق جيء به كنائب لرئيس الجمهورية، وهو غير معروف وليست له هوية سياسية أو تجربة نضالية، وإن اسمه سيزول كما زالت مئات الأسماء التي صنعت صناعة لتقلد مناصب رسمية ثم هوت وبادت وما عاد أحد يذكر إلا أخطاءها ويتندر على قدراتها.
ولعل ملاحظة الزائر الكريم صحيحة، وإن هنالك نضوبا في أصحاب الموارد الفكرية والروحية والطاقات التنظيمية. ولعل ذلك يعود إلى تسفيه فكرة الحرية والرأي الآخر والمدافعة حيث إن الاستبداد يقتل ملكة النقد الباني والمدافعة ولا يعرف أهمية العطاء الفكري والإبداع والانفتاح وعدم الانغلاق. وإلى حين من الدهر كانت الطلقة النارية أهم من الفكرة والرؤية والمساهمة النظرية، وكان التمجيد للبطولات وعرس الشهيد والمعارك التي يلد بعضها بعضا وبيع الوهم للشباب.
ولذلك نشأ جيل الطابور، وقوام تكوينه ومزاجه الإذعان والانقياد والطاعة ولذلك توارى في معركة الأفكار والآراء علما بأن التفكير فريضة قرآنية وما من شعيره أكد عليها القرآن كما أكد على العقل والتفكر والتدبر والنظر “أفلا يعقلون ” أفلا يتدبرون، أفلا يتفكرون، أو لم ينظروا الخ.
قال الزائر الكريم وما العمل، كيف سيتفاهم شبابكم مع العالم الخارجي وكيف سيخوض معركة الأفكار وكيف سيحاور ويجادل في المنابر العالمية ولغة الحوار للأسف هي لغة من تصنفونه بالعدو من انجليزية وفرنسية والمانية وروسية.
قلت: حتى هذه اللغات أصبحت لغات إسلامية، ألا ترى أن الناطقين من المسلمين بالإنجليزية أكثر عددا من الناطقين بالعربية، مسلمو الهند وباكستان وبنغلاديش وحدهم حوالي ستمائة مليون، والدراسات عن الإسلام باللغات الحية الأخرى أكثر من اللغات الصادرة باللغة العربية، بل إن الدراسات الصادرة باللغة العربية لا تعدو أن تكون اجترارا للماضي وإعادة بث لما كتبه ابن تيمية وابن حزم وابن كثير ومن في حكمهم – ولا يوجد فكر إسلامي بتناول قضايا الحكم والإدارة والسياسة وحقوق الإنسان فيه من الجودة والتأصيل ما نسد به حاجتنا ونبارز به الآخر.
قلت لهذا نحن في بيات سياسي وثقافي وفكري وإن القيادات الموجودة لا تريد مفكرين أو منظرين، ولكنا نريد وعاظا يجترون ما في الكتب القديمة ويحسنون الحفظ والاجترار ويحسنون التعبئة وترديد الشعارات ويكرثون ثقافة التواكل والبكاء على الماضي ويحللون ثقافة العنف وسفك الدماء- وللأسف فإن لهذا السقوط التاريخي محللين ومؤيدين يرون أنه ليس في الإمكان أحسن مما كان ولا حول ولا قوة إلا بالله من فقهاء السلاطين.
شبابنا بل حتى أساتذة الجامعات من جيل الشباب يجهلون تاريخ السودان وتاريخ الثقافة الإسلامية وتاريخ العالم ولم يقرأوا عالم الأفكار وكيف برز العالم الحديث ومعظم ثقافتهم يلتقطونها من الأحاديث العابرة في أجهزة الإعلام والمساجد ودور الوعظ والإرشاد – ولذلك العقل السائد عقل سطحي، تستفزه معارك الفكر والشحذ العلمي ويستعيض عن ذلك بثقافة العنف والمحاصرة وتكميم الأقواه، علما بأن دول إسلامية وإمبراطورية سقطت يوم أفلست في عالم الأفكار، صحيح أن القوة مهمة، القوة المادية “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة” ولكن كذلك أخذ الكتاب بقوة، وكيف يمكن أخذ الكتاب بقوة من دون قراءة وتدبر وهضم وإعادة إنتاج وأول آية في كتاب الله وهي مفتاح الوحي، ورد فيها إقرأ باسم ربك الذي خلق، وورد فيها القلم، الذي علم بالقلم، هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ ولا ألوم أن يكون المثقف في خدمة السلطة وفي خدمة المجتمع وإلا يصبح العلم والثقافة ترفا ذاتيا وبضاعة خاصة كاسدة لا تتجاوز صاحبها ولكن في إطار السلطة على المثقف تقع مسؤولية المبادرة والإبداع والتجديد وليس فقط الجهاد للبقاء في كرسي السلطة أو الهامشية، في زمان قلت فيه سلطة الدولة وانكمشت حركة الدولة وأصبح العالم قرية صغيرة تتجاذبها التيارات والحوارات من خلال الهاتف السيار والفضائيات وغيرها وفي هذا العالم تزداد قوة الحجة والكلمة والإبداع والمبادرات الروحية والفكرية – وبناة السودان الجديد عليهم أن يكونوا أهلا لهذه التجاذبات وأصحاب قدرات روحية وفكرية وليس الفكر والأدب مجرد طق حنك.. والله أعلم.

Exit mobile version