أذكر جيّدًا، ويذكر غيري كيف أن المُعارضة (الثورية/ المسلحة)، خاصة تلك المُنبثقة من الحركة الشعبية لتحرير السودان، ترفع من شأن الوسيط الأفريقي ثابو مبيكي وآليته المسماة (رفيعة المستوى)، وتقرظهما تقريظًا وتعظمهما تعظيمًا، فيما كانت الحكومة تُجرد على الرجل وآليته حملات مُتتالية وتصفه بأوصافٍ فيها من الغلو سمات المهاترات الشخصيّة.
الآن، انقلبت الأمور رأسًا على عقب، فصار المادحُ ذامًا والعكس، فها هي المعارضة تهتاج وتدور وتمور، فتبدو وكأنها قطيع أبل يلوب حول مورد ماء، فتصف حبيبها أمبيكي بما يفوق الأوصاف السابقة التي كان يرزأه بها رصفاؤها الحكوميون. كل ذلك على أثر توقيع آليته (الرفيعة) على خريطة طريق لإنهاء الأزمة السودانية مع الحكومة – في أديس أبابا – بشكل أحادي، حيث عدَّت المعارضة أن ذلك أفقد الوساطة حيادها، واصفة ما حدث بالمسلك الشمولي والديكتاتوري، ورافضة المهلة التي منحها لهم الاتحاد الأفريقي للتوقيع على خريطة الطريق.
ردود فعل المعارضة إزاء التوقيع الحكومي مع آلية أمبيكي، بلغت ذروتها في بيان صادر عن التحالف الوطني المعارض الخطوة تضاف إلى مواقف سابقة للوسيط الأفريقي تبنى فيها مواقف حكومية، الأمر الذي أفقده دور الوسيط ليصبح طرفاً يتبنى مواقف الحكومة علناً، ما أفقده ثقة باقي الأطراف، وبالتالي أصبح أمبيكي غير مؤهل أخلاقياً للعب دور الوساطة.
والحال، أن الناظر إلى بيان المعارضة (الحاد) تجاه أمبيكي (لا آب شانئه)، لا يعييه أن يلحظ الكثير من العيوب في بنيته اللغوية (صياغته)، حتى أنه يبدو لقارئه كـ (نص) حمّال تفسيرات وتأويلات كثيرة تصلح لفتح المجال للخيال. لكن وبعيدًا عن هذه الملاحظات التقنية، فإن اجتراح مثل هذا الخطاب (الشخصاني المحض) يحيل إلى أن المعارضة تعيش بالفعل – كما الحكومة، وربما أكثر – واقعًا هشًا ومأزومًا، حتى أن الصادق المهدي عبَّر عنه بهذه المقاربة العجيبة، فانظروا ماذا قال: “رأت الوساطة أن تضعنا أمام الأمر الواقع لعلها تجعل الاتفاق لاحقاً، أسوةً بما تم مع الفرقاء في جنوب السودان عند التوقيع على اتفاق السلام مع زعيم المعارضة رياك مشار بشكل منفرد، تبعه توقيع الرئيس سلفاكير ميارديت”.
وهكذا، فإن مقاربة كهذي وأوصاف كتلك، تشي بتفاقم الأزمات (داخل) المعارضة، واقترابها يومًا بعد يوم إلى حالات محتملة من تشظٍّ أكثر عمقًا مما هو واقع اليوم، وهكذا بدا بيان المعارضة الذي اتخذ من أمبيكي شماعة لافتقارها للإرادة والعزيمة الكافيتين، للتوقيع على خارطة طريق فقط وليس اتفاقًا، بدا وكأنه محاولة تلفيقية لإيجاد مخرجًا منطقيًا من هذه الورطة السياسية – والمعرفية أيضًا.
بطبيعة الحال، فبجانب ما أشرنا إليه، كان على البيان أن ينتبه في لغته وطريقة صياغته إلى أنه موجه في المقام الأول إلى (خارج) شديد التداخل والتعقيد، ومحيط شديد الإحباط جراء الحروب الأهلية الدائرة فيه، محيط ملّ ارتباطه الأبدي بأزمات الديموقراطية وكره خراب مجتمعاته المحلية وتفككها جراء الحروب الأبدية، الأمر الذي أدى إلى انهيار اقتصاداته التقليدية علاوة على تفشي الجوع والفقر والأمراض والبطالة، هذا علاوة على المناخ الكوني العام الغارق في اليأس وانعدام الأفق والأمل، علاوة على واقع داخلي مأزوم، أصابه الرهق وضيق الوهق جراء استمرار الحرب منذ الاستقلال وإلى الآن.