شمال دارفور أكثر الولايات التي شهدت توقف الأطباء عن العمل لأسباب ودواعِ مختلفة
د. محمد يسن: إضراب أطباء الجزيرة ليس له ظلال سياسية، بل مطلبية يسعون من ورائها إلى تحسين بيئة العمل
وزير الصحة بجنوب دارفور: الأطباء يعملون في ظروف صعبة.. ومتغيرات كثيرة حدثت على مفهوم مهنة الطب
ما إن يعود أطباء مستشفى لمداواة المرضى بعد رفعهم لإضراب، إلا ويعلن نظراء لهم في مستشفى آخر توقفهم عن العمل، وما بين استمرار وإضراب يقف المواطن في المنتصف، ينظر إلى ملائكة الرحمة متوسلا مراعاة ظروفه الإنسانية، وفي ذات الوقت يوجه بصره نحو الحكومة لترقية الخدمات الصحية وإزالة المعوقات التي تعتري طريق من يعملون في المستشفيات في ظل ظروف يعتبر التردي عنوانها البارز، وإضرابات الأطباء التي ارتفعت وتيرتها في الثلاثة أعوام الأخيرة تثير الكثير من التساؤلات والاستفاهمات التي تأتي مقرونة مع نزيف متواصل لأبرز الكوادر بداعي الهجرة خارج الوطن، فهل هذه الإضرابات فرضتها الظروف على الأطباء بعد أن وصل الصبر لديهم منتهاه قياسا على البيئة التي يعملون بها وضعف مخصصاتهم ـ كما يشيرون ـ، أم أن أسبابا سياسية تكمن وراؤها ـ كما تدعي جهات حكومية ـ، والسؤال الأكثر أهمية متى تستقر العلاقة بين الطرفين حتى ينعم المواطن بخدمة طبية مستقرة.
الجزيرة.. التسويف يقود للتوقف
فلتكن بدايتنا من ولاية الجزيرة التي شهدت آخر إضراب معلن من قبل الأطباء وسبق أن شهدت إضرابات مماثلة خلال الفترة الماضية، وأخيرا وتحديدا في النصف الثاني من شهر مارس فقد دخل الأطباء في إضراب مفتوح عن العمل، ورهنوا إنهاءه بالاستجابة لجميع المطالب، وأعلن المتحدث باسمهم عن توقفهم من العمل عن جميع الحالات الباردة، وقال إن الأطباء يتعاملون مع الحالات الطارئة فقط، والإضراب شمل نواب الاختصاصيين والأطباء العموميين وأطباء الامتياز، مشيرا إلى تسويف الحكومة ومماطلتها في تلبية الاستحقاقات المهنية للأطباء بولاية الجزيرة، موضحا استحالة ممارسة الطبيب لمهنته في ظل بيئة متردية وانعدام مقومات العمل.
الفاشر.. أكثر من مرة
تعتبر شمال دارفور من أكثر الولايات التي ظلت تشهد توقف الأطباء عن العمل وإعلانهم الإضراب لأسباب ودواعٍ مختلفة، وقد نفذوا أخيرا ﺇﺿﺮاباً مفتوحا ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﺣﺘﺠﺎﺟﺎ ﻋﻠﻰ ﺗﺮﺩﻱ ﺍﻷﻭﺿﺎﻉ العامة بالمستشفى، وظل مستشفى الفاشر التعليمي ﻳﻌﺎﻧﻲ من عدة مشكلات تتعلق بضيق العنابر واكتظاظ المرضى، إلى جانب إصحاح البيئة، الأطباء ﻗﺮروا ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ ﻓﻲ إﺿﺮﺍﺏ مفتوح عن العمل نتيجة لما سموه بحرمانهم ﻣﻦ ﻣﺴﺘﺤﻘﺎﺕ ﻣﺎﻟﻴﺔ ﻭﻣﻘﺮات ﻟﻠﺴﻜﻦ، ﺑﺠﺎﻧﺐ ﻭﺟﺒﺔ ﻃﻌﺎﻡ، مشيرين إلى ﻓﺸﻞ مساعيهم مع ﻭﺯﺍﺭﺓ ﺍﻟﺼﺤﺔ في هذا الشأن، معلنين التوقف عن العمل إلى حين إﻳﺠﺎﺩ ﺣﻞ لمطالبهم كافة، التي وصفوها بالمشروعة، وفي العام الماضي أعلن أطباء مستشفى الفاشر، اضرابا عن العمل بسبب اعتداء شرطي على طبيبة بالمستشفى، وأعلنوا إضرابهم عن العمل إلى أن تضع السلطات حدا لمثل هذه الأفعال، وكانت حكومة شمال دارفور قد استجابت لبعض مطالبات الأطباء بالفاشر.
المناقل على الخط
ومن قبل لوَّح أطباء مستشفى المناقل بالدخول في إضراب عن العمل احتجاجاً على تردي البيئة الصحية بالمستشفى وتردي الخدمات بالميز،
وقال عدد من الأطباء وقتها إن المستشفى يعيش حالة تردٍ بيئي جراء تراكم المياه داخل المستشفى، بالإضافة إلى مياه الصرف الصحي التي تقع بالقرب من العنابر خاصة عنبر الجراحة، كما اشتكى الأطباء من نقص الكادر الطبي بالمستشفى خاصة قسم الولادة الذي يستقبل أكثر من مائة حالة في اليوم علاوة على عدم توفر علاج الطوارئ بالمستشفى والنقص الحاد في الأدوية المنقذة للحياة، وكشفوا عن ارتفاع معدل وفيات الأمهات بسبب ضعف الرعاية الصحية الأولية، في الوقت الذي أكدوا فيه تحصيل إدارة المستشفى لأكثر من ألف جنيه من بوابة الدخول وما يقارب عشرة آلاف من صيدلية المستشفى في اليوم لكنها لم تصرف لتحسين بيئة المستشفى وأوضحوا بأن المستشفى يتعالج فيه العشرات من مواطني قرى شرق وغرب المناقل، وأكدوا الدخول في إضراب عن العمل إذا لم تتدخل وزارة الصحة بولاية الجزيرة لإنقاذ المستشفى من الانهيار الصحي.
مستشفى أم درمان والمرتبات
تتعدد أسباب إضرابات الأطباء عن العمل حسبما يعلنون عنها وتتفاوت بين المالية والخدمية، ومن قبل دخل أطباء الحوادث في مستشفى أم درمان في إضراب مفتوح عن العمل، لعدم صرف مرتباتهم ما أدى إلى تعطل خدمات الطوارئ بالكامل، وقال مصدر طبي وقتها إن قسم التقنية والتمريض والأطباء في حوادث مستشفى أم درمان دخلوا في إضراب مفتوح عن العمل لعدم صرف مرتباتهم المالية لمدة شهرين.
عروس الرمال احتجاج صريح
وغربا باتجاه ولاية شمال كردفان، فإن الإضرابات “ضربت” أيضا مستشفاها العريق من قبل، وذلك حينما أعلنت لجنة أطباء مستشفى الأبيض الإضراب بعد أن دفعت بحزمة من المطالب تمثلت في محاسبة المعتدين على الأطباء ورفع عريضة في وكيل النيابة والذي أشارت اللجنة إلى رفضه فتح بلاغ في المعتدين، وتحديد زمن الزيارة في المستشفى، وتوفير الأمن للأطباء والكوادر الطبية، وقالت لجنة الأطباء إن الاعتصام جاء من أجل المحافظة على ما تبقى من كرامة وسلامة الأطباء، وأشار البيان إلى احتجاز طبيب بسبب احتجاجه على رفض وكيل النيابة فتح بلاغ في المعتدين في القضية المعروفة بحسب البيان، وأفرج عنه لاحقاً بالضمان الشخصي، لتدعو بعدها اللجنة إلى مواصلة الإضراب عن كل الحالات الباردة وفي كل المستشفيات.
القضارف.. ومسلسل لا يتوقف
شرقا فإن القضارف ظلت تشهد إضرابات واعتصامات متعددة للأطباء ورغم تولي وزير صحة ينتمي لذات التخصص إلا أنها لم تتوقف فقد شهد هذا العام أكثر من أضراب، ومن قبل توقف مستشفى القضارف تماما عن العمل بعد الإضراب الشامل الذي نفذه الأطباء والعاملون بالمستشفى احتجاجا على اعتقال السلطات لعدد من الأطباء من بينهم الدكتور جمال خالد اخصائي النساء والتوليد والدكتور عثمان صادق بخاري اخصائي.
وجاء اعتقال الأطباء خلال اجتماع لاتحادهم بالقضارف لبحث قضية مستحقات أطباء الامتياز الموقوفين عن العمل بالمستشفى بقرار من وزير الصحة الولائي، ونفذ الأطباء والعاملون بالمستشفى وقفة احتجاجية استنكارا للاعتقال مطالبين بحقوق أطباء الامتياز الموقوفين عن العمل واستمرت الوقفة الاحتجاجية حتى الواحدة من الظهر.
الجنينة.. استقالات وفصل
في ولاية غرب دارفور فإن الأطباء تجاوزوا مرحلة الإضرابات بعد أن ضاقوا ذرعا بتردي الواقع كما يشيرون، وذلك حينما تقدم 16 طبيبا عموميا باستقالاتهم عن العمل ودفعوا بها إلى مدير عام الوزارة رغم أنهم أمهلوا وزارة الصحة أسبوعا للرد عليهم، وبرروا خطوتهم لرفض الوزارة تنفيذ مطالبهم التي وصفوها بالعادلة، وأفاد الأطباء في خطاب الاستقالة أنهم رفعوا إضرابهم الذي نفذوه قبل استقالاتهم بعد الوعود التي قطعتها وزارة الصحة لحل مشاكل الأطباء التي سبق أن تقدموا بها منذ فترة، وقد لخص الأطباء مطالبهم إبان فترة الإضراب في تردي بيئة العمل والخدمات الصحية بمستشفيات الولاية كافة، انعدام الحماية الكافية للكادر الطبي، عدم دفع الاستحقاقات المالية، إضافة إلى الأزمات الإدارية، وكان مدير عام وزارة الصحة المكلف وقتها قد أكد في ذلك الوقت عن تشكيل لجنة من الأطباء ووزارة الصحة وممثلين لحل المشاكل في غضون أسبوع لـ45 يوما، وأضاف إن المطالب التي وردت في مذكرة الأطباء آنذاك عادية ومشروعة وإن هموم وزارته.
نيالا.. للصبر حدود
وفي دارفور ايضا فقد دخل من قبل الأطباء بمستشفى نيالا التعليمي في إضراب عن العمل بسبب تأخر استحقاقاتهم المالية الأمر الذي ادى إلى اكتظاظ عشرات المرضى بباحة حوادث المستشفى، وقطع الأطباء بعدم انهاء الإضراب إلا بعد سداد متأخرات الأطباء، وإتهموا إدارة المستشفى بالتعمد في تأخيرها، ووقتها قال المدير الطبي للمستشفى إن الأطباء توقفوا عن العمل بسبب تماطل إدارة المستشفى في الوفاء بحقوق الأطباء، مشيرا إلى أن الأطباء أجبروا على الإضراب سيما وأنهم يعملون في ظروف لا تساعد الطبيب في أداء مهامه الإنسانية مضيفا أن البيئة بالمستشفى طاردة كليا، وأضاف مضوي أن إيرادات المستتشفى وحدها تكاد أن تكون كافية لسداد متأخرات الأطباء بالإضافة إلى كافة احتياجات الضرورية الطبية مبينا أن المستشفى يعاني نقصا حادا في ابسط مقومات الخدمات الطبية المتمثلة في الشاش والقفازات والمحاليل الوريدية، ومن جانبه أشار طبيب إلى التردي المريع بجميع الإدارات، والأقسام الطبية بالمستشفى بسبب سوء الإدارة والإهمال الجسيم، مشيرا إلى أنه رغم الإيرادات الوفيرة المفروضة بالمستشفى إلا أن المبالغ لا تذهب لصالح الطبيب ولا المريض ولا حتى توفير الأدوية المنقذة للحياة، منوها إلى نقص حاد في الأسرَّة، الأمر الذي يؤدي إلى وضع مريضين على سرير واحد.
ودخل الأطباء في مشفى نيالا التعليمي في اعتصامات مماثلة لأكثر من سبع مرات لذات الدواعي مختلفة، واضطر والي الولاية لعقد عدة اجتماعات بغية إيجاد حلول جذرية لمعوقات عمل الأطباء غير أن حكومة الولاية تبدو عاجزة أمام مشكلات المستشفى.
سنار.. الفصل آخر العلاج
أما ولاية سنار فقد شهدت حادثة مماثلة كتلك التي شهدتها ولاية غرب دارفور وذلك حينما تم فصل عدد من الأطباء، فمن قبل قررت سلطات وزارة الصحة في ولاية سنار، فصل جميع أطباء الامتياز الذين أضربوا عن العمل في مستشفى سنار بسبب تردي بيئة المستشفى وعدم توفر معينات العمل وانعدام الأوكسجين داخل العنابر، وأصدر وزير الصحة بولاية سنار توجيهات لإدارة المستشفى تقضى بالاستغناء عن جميع أطباء الامتياز عقب دخولهم في الإضراب، وأمهلت السلطات الصحية الأطباء فترة زمنية مدتها 48 ساعة لإخلاء السكن وتسليم العهد، وكان أطباء الامتياز بمستشفى سنار دخلوا في إضراب عن العمل احتجاجاً على تدهور بيئة العمل داخل المشفى، بجانب عدم وجود استراحات للأطباء ما يصعب عملية متابعة الحالات المرضية، والمناوبة للأطباء خلال 24 ساعة، وانعدام كل ما من شأنه تسهيل العمل وفاعلية التدخل الطبي بمستشفى سنار.
أطباء التخدير والتهديد بالإضراب
وقبل أيام هدد الاتحاد المهني التخصصي للتخدير بتوقف منسوبيه عن العمل في المستشفيات العامة وطالب وزارة الصحة بوضع وصف وظيفي تفصيلي لتحديد مسؤوليتهم، وقال إن المستشفيات تركز في عملها على اختصاصي التخدير بينما تقع المسؤولية الفعلية على مسنوبيه الذين يمارسون العمل داخل غرف العمليات في كل ولايات البلاد، وكشف الأمين العام للاتحاد محمد أحمد الزين عن تقديمهم خطابا رسميا لوزارة الصحة الاتحادية بغرض إصدار وصف وظيفي وتحديد التكاليف التي تقع على عاتق منسوبيه، لافتا إلى ازدواج معايير وزارة الصحة في تصنيف متخصصي التخدير.
مطالب موضوعية
عودة إلى سؤالنا الذي طرحناه عنوانا لهذا التحقيق، يجيب الدكتور بولاية الجزيرة محمد يسن، الذي نفى في حديث لـ(الصيحة) أن يكون إضرابهم عن العمل الذي دخل يومه السادس ـ عند إعداد هذا التحقيق ـ أن يكون له ظلال سياسية، ويشدد على أهدافهم مطلبية بامتياز يسعون من ورائها إلى تحسين بيئة العمل في المستشفيات، وللتأكيد على صدق وجهة نظره يشير إلى أنهم خاطبوا كل الجهات المسؤولية ولم تحو مذكراتهم مطالبة بإقالة وزير أو مدير في ـ تأكيد على أنها ليست سياسية ـ،وقال إن الأطباء يدفعون ثمن تردي الأوضاع الصحية بالمسشفيات باهظا، وأضاف: قد تكون الاعتداءات جزءا من المشاكل التي نتعرض لها، ولكن نحن نعلم جيدا أن المواطن حينما يعتدي على الطبيب ليس لسبب خاص ولكن بداعي تردي بيئة العمل التي تظهر الطبيب وكأنه مقصر في عمله، والمواطنون لا يعرفون مدى المعاناة التي يتكبدها الأطباء في سبيل توفير الخدمة، وقال إن مذكرتهم التي تم رفعها أخيرا إلى والي الولاية ووزير الصحة لم تحو شيئا سوى المطالبة بتوفير ضرورات العمل مثل “الجوينتات” والأوكسجين، وميزان الضغط والأدوية وتأهيل العنابر والحوادث وغيرها من ضروريات العمل، مؤكدا أن منطلقاتهم أخلاقية وليست سياسية كما يعتقد البعض.
متغيرات حقيقية
من ناحيته يشير وزير الصحة بولاية جنوب دارفور، يعقوب الدموكي، إلى حدوث متغيرات على مفهوم مهنة الطب، ويلفت في حديث لـ(الصيحة) إلى أن مهنة الطب فيما مضى كانت إنسانية بحتة ولكن مع المتغيرات الاقتصادية ونظرة الكثير من الأسر إليها من زاوية استثمارية، جعلها مهنة إنسانية استثمارية، ويوضح الموكي حديثه قائلا: الأسر تدفع مبالغ طائلة لتعليم أبنائها في كليات الطب، وبكل تأكيد تريد عائدا لما تصرفه، ولكن عندما يتم تعيين الخريج في القطاع العام تضح حقيقة ضعف المخصصات، وهذا الأمر يلقي بضغوط نفسية على الطبيب الذي يسعى لتحسين دخله ورد الجميل لأسرته بالعمل في أكثر من مكان والمطالبة بزيادة مخصصاته، ويبدو وزير الصحة بجنوب دارفور غير مقتنع بدعوى وجود أجندة سياسية وراء إضرابات الأطباء، وقال: ربما يوجد طبيب أو اثنين لديهما أجندة سياسية، ولكن معظم الأطباء عندما يدخلون في إضراب فإنهم يطرحون قضايا مطلبية موضوعية، وفي تقديري أن الأطباء يعملون في ظل ظروف صعبة على الصعيد الشخصي والعام، فما يحصلون عليه من أموال خاصة في القطاع العام يعد غير كافٍ، كما أن بيئة العمل تمثل لهم عقبة أمام تقديم خدمات طبية متكاملة وجيدة، لذا فإن الكثيرين منهم يتجهون إلى الهجرة، ورأى الدموكي أن هجرة الأطباء خارج السودان تحتم على الدولة الحفاظ على الذين فضلوا البقاء، وذلك عن طريق تحسين مخصصاتهم بالإضافة إلى ترقية البيئة داخل المؤسسات الصحية العامة حتى تكون جاذبة، ويعتقد أن البيئة الجاذبة من ضروريات عمل الطبيب.
تحقيق: صديق رمضان
صحيفة آخر لحظة