جاء في صحيفة “العربي الجديد” أنّ مجموعة من رؤساء شركات أميركية في تقنية المعلومات عقدوا اجتماعاً لوضع خطة تمنع وصول دونالد ترامب للفوز بالترشيح عن الحزب الجمهوري أو الوقوف ضده حتى في حال فوزه بترشيح الحزب بالفوز في الانتخابات الرئاسية. الباعث على هذا الإجراء هو الخوف من تأثير تهوّر ترامب على مكانة الدولار وعلاقات أميركا التجارية وعدم تفهمه موقع الشركات العالمية الكبرى، كون أنّها تعتمد، في أرباحها، على الأسواق العالمية. ويُخصص قدرٌ كبير من هذا الخوف للصين التي تعتمد عليها هذه الشركات في التسويق، بالإضافة إلى دول آسيا الأخرى.
ينبئ تقدّم ترامب وازدياد أنصاره ودعمهم له، على الرغم من تجاوزه خطوطاً حمراء كثيرة للقيم الأميركية، عن حقيقة هذه الحالة، وهي التعبير عن الانحطاط السياسي الذي يعمّ العالم، وليست أميركا استثناء من ذلك. ففي بلدٍ لا تقاوم سحر الديمقراطية المغري بعدم وضع كوابح للتعبير، ربما أغرت هذا المليونير بعقد مضارباتٍ تعزف على وتيرة الإسلاموفوبيا، ووصول مرحلة من التصريحات اللامسؤولة إلى درجة أن تكوّن ضده رأيٌّ عام، يسير جنباً إلى جنب مع أصوات مؤيديه. هذا غير تشبيهه بهتلر وأسلوبه العنصري ضد الأجناس والأعراق، حيث قام مناهضوه برسمه في مقاربةٍ بينه وبين هتلر أو بتدشين مقالاتٍ ومدوناتٍ وتعليقاتٍ عديدةٍ على كل ما يقوله في حملته الانتخابية.
هذه هي الغطرسة التي حوّلت الولايات المتحدة من أكبر دولة دائنةٍ إلى أكبر دولة مدينة. وعلى الرغم من تناقض العلاقات والتنافس المحموم بين الولايات المتحدة ودولة تتسارع خطاها التنموية، مثل الصين، فإنّ الأخيرة تُعتبر أكبر دائن رسمي للولايات المتحدة، حيث يوجد على الأراضي الصينية مئات المليارات من الأصول المالية الأميركية. وتُعتبر ثاني أكبر شريك تجاري، وثاني أهم مصدر للواردات الأميركية، ومصدراً مهما للاستثمار وتصدير التكنولوجيا. وبوصفها صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تناطح الصين، الآن، الولايات المتحدة للفوز باللقب الأول.
لم تكن إنسانية هذه الشركات ولا أخلاقها المحفز على إيقاف هيجان ترامب في مستودع الخزف الأميركي، قاذفاً بكرات نيرانه على الجنسيات والشعوب الأخرى، وموجهاً القدر الأكبر منها إلى الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وآسيا. وليس سرّاً أنّ ما دعا إلى ذلك مصلحة هذه الشركات الاقتصادية والربحية التي ستتزعزع كثيراً، بل يمكن أن تفقد سوقها في الشرق الأوسط وآسيا بالذات، من منطلق أنّ للاستهلاك جغرافيته الخاصة.
يُدرك رؤساء هذه الشركات جيداً الرابط بين الاقتصاد والثقافة، واهتمام الغرب المروّج تجارته
“الشركات تريد القول بوجوب الإقرار بمحدودية الواقعية السياسية الأميركية، وأنّه يمكن إنقاذ الاقتصاد عبر مراعاة ثقافات الشعوب الأخرى” بالشعوب الأخرى المستهلكة، لذا وصفوا ترامب بأنّه لا يفهم في الاقتصاد ولا السياسة ولا الدبلوماسية. وقد جاء في أدبيات فصل الاقتصاد عن الثقافة التي ربما تكون ناتجة عن تعامل الرأسمالية الغربية مع الاقتصاد، أنّ هذا الأمر قد يكون مقبولاً ضمنياً في الغرب الذي يعتنق مذاهب شتى من الفصل، مثل الفصل بين الدين والدولة وغيرها. ولكن، عند الشعوب الشرقية، الثقافة عقيدة، لا يُقبل المساس بها، حيث تتحكم بشكل كبير في مجريات الأحداث الاقتصادية والسياسية، وإلى حدٍّ ما العلاقات الدولية. ونجد أنّه غالباً ما تنجح الثقافة في خدمة السياسة، فأميركا عندما أرادت الانفتاح على الصين، وفشلت العلاقات الدولية في تحقيق ذلك، اتجهت إلى الدبلوماسية الشعبية، أو ما عرفت بدبلوماسية البينغ بونغ في عهد ريتشارد نيكسون في بدايات سبعينيات القرن الماضي. يشرح هذه الحالة ما ظلّ يتردد في أوساط الباحثين أنّ الثقافة هي المزوّد للوجه الرمزي الذي من ورائه يعمل الاقتصاد الحقيقي، كما يتم شرح الثقافة بأنّها ذلك الشيء الذي يصعب على التحليل الاقتصادي شرحه.
تتكلف أميركا كثيراً للتكفير عن بعض السياسات، انتصاراً للقيم المنظورة، ويعتقد بعضهم، في هذا المجال، أنّ فوز باراك أوباما بولايتين رئاسيتين نوع من التكفير عن سياسة الفصل العنصري، والتوغل في الرقّ الذي مارسته أميركا من قبل. فعالجت الأمر فنيّاً، حيث عرضت “هوليوود” أعمالاً تنبأت بدخول رئيس أسود للبيت الأبيض منها ما جسّده المسلسل التلفزيوني “24 ساعة” الذي قام بدور الرئيس الأميركي الأسود ديفيد بالمر فيه الممثل دينس هايسبرت، وأعمال أخرى ناقشت قضايا اجتماعية وسياسية معقدة، مثل فيلم “ماكوم إكس” للممثل دينزل واشنطن و”التاريخ الأميركي ×” الذي كان بطله إدوارد نورتون.
تمت هذه الترجمة للواقع بفضل ما يسميه الأدباء “التجربة الشعورية” التي جاءت بنظرة موضوعية شاملة، تميزت بالتعبير فناً، أيّاً كانت صدقيته، وميله إلى نقل الحقائق، بما يتناسب مع جو التعبير الفني والأدبي. ويمكننا أن نرى بوضوح استعانة الأدباء والفنانين بوقائع التاريخ، وتجميل أعمالهم بشيء من الأسطورة، مع مزجه بالواقع المعاصر، بإضاءة لمسةٍ سحريةٍ ساعة ميلاد القصة الفنية أو القصيدة أو غيرها من الأشكال الفنية والأدبية. لا يأتي تبني القضايا من خلال الأعمال الأدبية والفنية، وتحقيقها على أرض الواقع، بالأماني، فما حققته أميركا زُرع، أولاً، وجنيت ثماره الناتجة عن قيم يتمناها المجتمع الأميركي، وليس بالضرورة إيمانه الكامل بها.
وشمل التكفير أيضاً أحاديث تدّعي البحث عن الحقيقة، بعيداً عن الإيمان بالتعددية التي لخصها المؤرخ الاجتماعي الأميركي، ديبوا، في “رسالة الروح الزنجية إلى العالم” تقول: “تاريخ الصراع من أجل تحقيق الشعور الذاتي لدى الفرد، بآدميته الكاملة، عن طريق دمج جانبي شخصيته في ذات واحدة أفضل وأكثر صدقاً”.
وهذا ما تريد قوله هذه الشركات بوجوب الإقرار بمحدودية الواقعية السياسية الأميركية، وأنّه يمكن إنقاذ الاقتصاد عبر مراعاة ثقافات وخصوصيات الشعوب الأخرى واحترامها.
(منى عبد الفتاح – صحيفة العربي الجديد)