أكتب هذا المقال وأنا في الخرطوم لتطبيع علاقاتي مع السودان الشقيق، لأنّ علاقتي به تبقى متوترة في غير شهري ديسمبر ويناير؛ لأنّ شتاء السودان «ربيع»، ومارس في السودان هو شهر «الكوارس»، علما أننا في السودان مهذبون ولا نخرج ألسنتنا لنطق حروف مثل الثاء والذال، وهو شهر «الكوارس» لأنه يشهد الامتحانات المدرسية الحاسمة على المستويات كافة، واكتشفت أن مارس هو أنسب الشهور لزيارة السودان لأنّ كل البيوت تمارس حظر التجول لعيالها فتصبح الشوارع شبه خالية.
وذكرتني ظروف الخرطوم بآلاء فرج، وهي طالبة في الصف الأول بمدرسة ثانوية بمحافظة القليوبية في مصر، قالت في موضوع الإنشاء في امتحان نهاية عام دراسي خلال سنوات حكم حسني مشؤوم الذي كان يدير مصر من منتجع شرم الشيخ إن أمريكا هي سبب بلاوي الدول النامية وإنها دولة ظالمة ومستبدة وتسرق خيرات الشعوب وتعطل قدراتها، فما كان من المدرس الذي وقع موضوعها في يده إلا أن أبلغ المشرف على الامتحانات بأمر «المفعوصة» التي تتطاول على ماما أمريكا وتقول في حقها الكلام الشين، وبدوره حمل المشرف موضوع الإنشاء ذاك وعرضه على وكيل التربية والتعليم بالمحافظة الذي بدوره استنجد بالسلطات الأمنية التي استدعت آلاء واستجوبتها كي تعترف بعضويتها في تنظيم إرهابي يعمل على قلب نظام الحكم والقيام بتفجيرات هنا وهناك (لحسن حظ آلاء لم تكن داعش قد تدعدشت وقتها وإلا لدشدشوها).
ومثل المسكين سرحان عبدالبصير طفقت آلاء تصيح: أنا غلبانة وماليش في الحاجات دي، وقريت طراطيش كلام عن أمريكا في النحي نحي ني! وبعد استجواب استغرق عدة ساعات تقرر إطلاق سراحها ولكن بعد اعتبارها راسبة في الامتحان وحرمانها من الدراسة عاما آخر. يعني تقضي ثلاث سنوات في الصف الأول الثانوي.
وهاج أهل بلدتها وخرجوا في مسيرة تطالب برفع الحيف والظلم عنها، ولكن مفيش فايدة: تعتبر راسبة وتعيد الصف الأول سنتين إضافيتين، وبرروا ذلك بأن آلاء منحرفة سياسيًا وبها بذرة وخميرة إرهابية، والدليل القاطع على ذلك أنها وصفت بوش بأنه «سافل» (أخطأت آلاء هنا لأنّ بوش لم يكن سافلا بل عبيطا وأبلها وليس على العبيط من حرج)
والمصيبة الأفدح هي أن الدكتور مفيد شهاب وزير الدولة للشؤون «القانونية» والمجالس النيابية (يعني وزير البرلمان والديمقراطية التي تعني حرية التعبير وكفالة حق الاختلاف)، وهو أيضًا وزير سابق للتعليم العالي، قال عن آلاء إنها كتبت آراء تعتبر «قذفًا في النظام العام وتدل على الاستهتار».. يعني تستأهل العقوبة التي أنزلت بها.. وإذا كانت كلمات بنت صغيرة بـ«ضفيرة» في وصف بوش تعتبر دليلاً على أنها «مشروع إرهابية» فيا ويلي، فقد تختفي زاويتي هذه بعد نقلي إلى غوانتنامو لأنني أعتقد أنَّ بوش ومن سبقوه ومن سيخلفونه أخطر على البشرية من التسونامي والزلازل والبراكين وإنفلونزا الطيور وحوادث المرور.
ولحسن حظ آلاء كان الرئيس المصري حسني مبارك قد أحس وقتها أنه خارج نطاق التغطية الشعبية، فأوعز إلى وزارة التربية ليعلن أنها ناجحة في مادة اللغة العربية بعد أن أحرزت 45 من 60 درجة، بل إن فتحي سرور رئيس البرلمان المصري وصف العقوبات على آلاء بأنها إجبار للطلاب على «الخنوع».. أما من يستحق التحية الصادقة والاحترام في موضوع آلاء هذه فهي الصحافة المصرية التي أثارت القضية وأبقت عليها حية حتى بلغت أرفع مسؤول في الدولة.. أما المنافقون الذين تباروا لمعاقبة آلاء ثم لحسوا كلامهم فإنّ «قفاهم اليوم يقمر عيش» بعد أن خسروا معركة آلاء ومعركة السلطة.