الشعبي يحتضر
برحيل السياسي الإسلاموي البارز د. الترابي، يخسر الإسلام الحركي (السوداني)، وحزب المؤتمر الشعبي بصفةٍ خاصة، رمزاً تميز بسعةِ النفوذ والإحاطة والدأب والكاريزما والعزيمة التي لا تلين، فضلاً على الجرأة في طرح الأفكار واقتراف الأفعال التي لا يتوانى أن يطور حيالها موقفاً نقدياً مناقضًا دون أن تخلتج له خالجة.
المؤكد، أن الحركة الإسلاميَّة لم تعُدْ حتى قبل رحيل الرجل، كما كانت وهي في عهدته وتحت قبضته، فبعد ما سُميّ بالمُفاصلة وما أعقبها من إقصاء للرجل من مراكز صُنع القرار السياسي والتأثير الديني، وهن عظمها واشتعل رأسها شيبًا وكادت الدابة أن تقضي على مِنسأتها الفكريَّة. لكن ما لا شك فيه أن مفرزة الحركة الإسلامية المسماة بحزب المؤتمر الشعبي هو الأكثر تأثرًا برحيل الترابي، لجهة أنه حزب الرجل الواحد بامتياز، يتمثل ويأتمر بأوامرة وينتهي ويجتنب نواهيه، فلم يكن يجوز في حضورة لأحد أن يعترض أو يخالف أقواله أو يأتي بردود مخالفة لأفعاله وإلا كان مصيره الإبعاد والإقصاء والتهميش، وربما (التهشيم) أيضًا. فالترابي – يرحمه الله – لم يعرف عنه كزعيم سياسي أو رجل دين، نزوعًا نحو التطوير الديمقراطي التداولي داخل الأحزاب والحركات التي تزعمها ابتداءً من جبهة الميثاق وانتهاءً بالشعبي الراهن، بل على العكس تمامًا كان نزّاعًا نحو (لم) السُلطة في يد واحده – هي يده – والاستحواز عليها تحت (حيازته) السياسية و(حوزته) العلمية دون غيره من تلامذته ومريديه وتابعيه وتابعيهم إلى يوم رحيله.
أكثر من ذلك، لم يكتف الترابي، بتكريس هيمنة الرجل الواحد على حزبه سياسيًا فقط، بل فكريّا أيضًا، وهذا ما دفع – كما أشرنا – في (كتابة) سابقة، مصطفى عثمان إسماعيل إلى القول إن الرجل يحتاج لخلفاء كُثر، وليس خليفة واحداً. لكن الناظر إلى هذا المستوى – الفكري – لن يجد في الأفق المنظور، خليفة للترابي، الذي مارس نوعًا من التعالي غير المسبوق على من كل من يجرؤ على طرح أفكار بديلة أو كل من ينتقد رؤاه ويناقض آراءه، إذ لم يكن يتمتع بذلك النوع مما يسمى تواضع العلماء والمفكرين، ربما لأنه كان أقرب منهم إلى السياسي (اليومي)، كما كان الرجل يصدر عن أنا ضخمة عجزت عن تخفيفها كل المحن والكروب (والابتلاءات) التي مر بها.
والحال هذه، فإنه برحيل الرجل انقطعت أعماله السياسية، فيما تشوب التي يُسميها سدنته بــ (الفكرية) شوائب كثيرة، أما الحزب الذي كان متنه وهامشة، أساسة وسقفه، فكرته وحركته، فإنه لا محالة ذاهب إلى حالة من التضعضع والتفكك والتشرذم والانقسام، وقريبًا جدًا.