لربما لم أستخدم هذا العنوان من قبل إلا عندما قررت الحكومة السودانية، وجميع القوى السياسية السودانية منح أبناء الجنوب حق تقرير المصير الذي فتح الطريق لحل المشكلة التي أرَّقت السودان وأوشكت أن تزهق روحه، بعد أن أمسكت بخناقه على مدى نصف قرن من الزمان خضع خلالها لوحدة الدماء والدموع بين شعبين متنافرين بأكثر مما تتنافر الشحمة والنار والقط والفأر والليل والنهار .
مرة أخرى، وبعد صبر غير جميل يعود الوعي لحكومة السودان، وتقرر أن تعامل أبناء الجنوب كأجانب مؤخِّرةً ذلك القرار لسنوات من الغفلة القاتلة بالرغم من علمها أنهم اختاروا، وبكامل قواهم العقلية، أن يصبحوا أجانب بعد أن قرروا، وبما يشبه الإجماع، أن ينشئوا وطناً آخر غير وطننا هذا الذي ركلوه بأقدامهم بعد أن أعملوا فيه أسيافهم قتلاً وتدميراً وتشريداً منذ بل قبل أن ينال استقلاله من المستعمر الإنجليزي.
ما إن حدث الانفصال حتى أخذ (الناس الحنان!) من أبناء السودان الشمالي يبكون (ويتنخجون) على وحدة أهلكت الحرث والنسل وتسبّبت في تدمير السودان وتعطيل مسيرته ثم لم يكتفِ المهرولون بذرف الدموع على وحدة ملعونة لم تجلب لبلادنا غير الشقاء والتخلف والخزي والعار فطفقوا (يتكبكبون) على من أهانوهم وأذلوهم فمنحوا أولئك الرافضين للتوحد معنا (الحريات الأربع) بدون أدنى مقابل، ثم ما لبثوا أن تكرموا عليهم ببطاقات المواطنة السودانية بالرغم من أن حكومة الدولة الجديدة في جنوب السودان لم توقف الحرب والتآمر على موطنها القديم في أي يوم من الأيام!
لقد ظل الحزب الحاكم في الدولة الجديدة بعد أن انفصلوا يحمل ذات الاسم الاستعماري والاستفزازي القديم (الحركة الشعبية لتحرير السودان) والذي ينضح بالروح العدائية التي تكشف الحقيقة المرة، أنهم لا يزالون حتى بعد إنشاء دولتهم يحملون توجهاً استعمارياً يعبر عن رغبتهم بل عزمهم على أن (يحرروا) الدولة التي فارقوها والمسمّاة بالسودان!
لتحقيق تلك الغاية (تحرير السودان)، ظلوا يدعمون أتباعهم في السودان والذين منحوهم اسم حزبهم الحاكم (الحركة الشعبية لتحرير السودان) وللتفريق بين الحركة الأم والحركة التابعة للدولة الجديدة في السودان منحوها اسم (قطاع الشمال) أي القطعة التابعة للحزب الحاكم في دولة جنوب السودان! يحدث كل ذلك ونحن لا نبالي، فقد أُصبنا بحالة مرضية من الانهزام والانكسار والانبطاح جعلتنا نستسهل الهوان ونرضى بالدنية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
قطاع الشمال ظلّ يتخذ من الدولة الجديدة منطلقاً لتآمره وللحرب على السودان، وظل الجيش الشعبي الحاكم في الجنوب يعتبر قطاع الشمال جزءاً من وحداته العسكرية العاملة في جنوب كردفان والنيل الأزرق اللتين ظل يحتفظ فيهما بلوائين يخوضان الحرب ضد الشمال ويثخنانه قتلاً وتدميرًا، ولا أريد أن اجتر ذكريات تلك المعارك الدامية التي فقدنا فيها آلاف الشهداء، ودُمرّت فيها المنشآت وشُرد الأهالي في أبو كرشولا وهجليج والله كريم والسميح والدمازين وغيرها، فقد عانى السودان من جار السوء الذي لم يُطفئ حقده أو ينزع غله قيام وطنه المستقل .
كنا نحن في منبر السلام العادل الذين نرى بعين زرقاء اليمامة ونعلم حقيقة العلاقة المأزومة مع الجنوب نطالب قبل الانفصال بالحل الذي تأخر كثيراً كما كنا نحن الوحيدين الذين يعلمون ما تنطوي عليه دولة الجنوب الجديدة، فقد تنبأنا بما هو حاصل اليوم من حرب أهلية طاحنة بين القبائل الجنوبية، لكن قبيلة النعام كانت تتعامل بالأماني والأحلام!
خدعت حكومتنا المرة تلو المرة ولُدغت من ذات الجحر مرات ومرات، ولكنها لم ترعو أو تتعلم فما قدمت للدولة الجديدة عطاء قل أو كثر إلا وقوبل بالكيد والتآمر، فبينما كنا نستقبل باقانهم الحقود بالضحكات والأحضان، كان يصب على رؤوسنا عبارات التحقير والحقد الدفين (باي باي عرب.. ارتحنا من وسخ الخرطوم) وغير ذلك من البذاءات.
فتح الحدود من جانبنا وإعادة النظر في أسعار عبور البترول استجابة لطلب حكومة الجنوب قوبل بنكران الجميل من خلال استقبال عرمان لتزويد قواته في جنوب كردفان والنيل بالأزرق بالسلاح والتشوين!
كل العالم يدرس الآثار الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية لقراراته إلا نحن الذين نعاني من الضوائق والأزمات ورغم ذلك نزيد من أوجاعنا بمنح الجنوب وأهله ما لا يستحقون وهم يقابلون إحساننا بالإساءة ومعروفنا بالجحود والنكران!
وهكذا نحن لا نجيد غير (ركوب الراس) ونرفض على الدوام أن نتعلم من دروس وعبر التاريخ، ولذلك لا غرو أن نظل في القاع .. كل دول العالم لم يحدث أن فكرت مجرد تفكير في أن تمنح شعباً اختار الانفصال عن دولته الأم وإنشاء دولة أخرى، الجنسية والمواطنة التي ركلها إلا نحن المساكين الذين نصر على الانتحار، فهل ترانا تعلّمنا ولن نعود أم سنعيد محاولة الانتحار ونكرر ذات الأخطاء؟!
الطيب مصطفى – (زفرات حرى – صحيفة الصيحة)