الخرطوم هذه العاصمة الدولة بكل مقاييس زحمة البشر وأزيز
الحديد الزاحف في شوارعها المفعمة
بأكداس القمامة والتي يحمل بعضها صفة المرصوفة مجازا .!
كان لابد لأهلها من متنفسات تكون مسامات في ضيق الأرواح والأجساد التي يعتصرها المناخ الخانق بشمسه وغباره بغية إخراج ضغوطات الإجهاد المعيشي و الحياتي و المجاملات التي تثقب الجيوب وتهد الحيل !
ذهبت مع الأسرة لنقضي بعض الوقت عند كورنيش النيل ناحية كبري المنشية ..فهالني منظر جموع الناس الذين انتشروا في المقاهي النظامية التي تقدم خدماتها عند حافة النهر أو داخله ومن خلال تلك العوامات الغارقة في أضوائها هذا فضلا عن زبائن بائعات الشاي اللائي استحوذن مساحات كبيرة تحلق فيها وحولهن الجالسون .
بيد أن ما لفت النظر وهو أمر يثير القلق و عكننة لحظات صفاء الجالسين هو ظاهرة التسول التي امتهنتها من يدعين أنهن لاجئات سوريات وهن نساء شابات يحملن أطفلا رضعا يطفن على الجالسين في استجداء بالحاح أن يساعدوهن..هذا الى جانب الكثيرات من المنقبات السودانيات اللائي أثرن إخفاء وجوههن وهن يممدن الأياد بدعوى مرض الوالد أو الوالدة أو أحد فلذات الأكباد الى آخر تلك المزاعم التي يعلم الله وحده بصدقها من عدمه !
بالطبع لا يمكن أن نستنكر حاجة الناس لعون بعضهم ولكن هذا بالضرورة ايضا لا يمنع من محاصرة الظاهرة التي باتت أسهل المهن للكثيرين لاسيما النساء الشابات بالقدر الذي يفتح أبوابا للمفاسد استغلالا من بعض مرضى النفوس وسهولة استجابة من يقعن فريسة لشتى الإغراءات !
هذا الى جانب وجوب تحمل الدولة التي فتحت ابوابها لكل تلك الأعداد من اللاجئين الذين نقدر الظروف الدافعة قسراً الى ترك ديارهم .. بأن تقوم بتنظيم وجود وحركة أولئك النفر من ضيوف البلاد وتجنيبهم مذلة التسول بتسجيلهم وفق بطاقات تتيح لهم الحصول على معونات راتبة من طرف المنظمات الإنسانية والخيرية العاملة في البلاد ..ولعل من نافلة القول الحديث عن عدم مقدرة الدولة على تقديم يد العون لهم وهي العاجزة عن صون كرامة مواطنيها الذين باتت اياديهم هي السفلى بعد ان كانت العليا حينما كنا نأكل مما نزرع ويفيض عن حاجتنا لضيوفنا وحتى الطير العابر تحت سمائنا ونلبس مما نضرع ويغطي عورة القاصدين لنا في زمان مسغبتهم !
بيد أنني لا حظت والشهادة لله عدم وجود أي من نساء جنوب السودان بين المتسولات ولا حتى الأطفال الجنوبين ..وهم المنكوبين في حرب ضروس تفوق في حريقها تلك التي تدور في كل مناطق الإقليم العربي وقد حظي مشردوها بكل الحنان الذي لم يجده ذوي القربى الذين كانوا ولازالوا قطعة من جسد وطننا .. لا على المستوى الرسمي ولا تسليط الضوء الإعلامي !
فاذا كان الشاعر الراحل سيد عبد العزيز قد خاطب محبوبته وهو في لحظة أنين جراحه قائلا .. مصرية وتارة شامية في السودان بى حبي ليكي ابوح ..فقد حق لنا أن نحي بنت الجنوب في شموخها وعزة نفسها رغم المأسي التي تلفها فأختارت رمضاء العودة الى الشمال لاجئة يجب أن نعزها ونجلها بعد أن كانت تأتيه قبلا مواطنة نازحة هربا من نيران وطنها المؤود في مهد استقلاله أو قل إستغلاله وهو الذي مزقته أنياب مطامع الساسة الظالمين لآهله .. ونقول لها .. جنوبية في السودان بي شوقي ليكي انوح.. ياقصب أعالي النيل ..يا مالكة الفؤاد والروح ..
فمرحبا بك صاحبة دار ولستِ أجنبية البته .
محمد عبد الله برقاوي – (ظل السيف – صحيفة الجريدة)