ولأن المعاني كائنات حيَّة تنمو وتتطور وتموت، لكنها في صيروتها يظل هيكلها صامدًا ومتيناً، وهكذا فإن كلمة (مفاوضات) وإن اختلف البعض في تفسيرها لكن جميعهم متفقون في معناها التقني الذي يمكن يصعد وينحسر جراء الخبرات البشرية اليومية.
وهكذا فإن عملية التفاوض هي إحدى الطرق العامة لإدارة الصراع، عبر نشاطات نتضمن مشاركة طرفين أو أكثر (أفراد، مجموعات، وفود)، في إطار السعي لإيجاد حل مرضٍ غير عنيف لقضية ما. وعليه، وبما أن التفاوض هو صراع وجها ًلوجه بين طرفين أو أكثر من أجل إيجاد طرق لحل الخلافات حول مصالحهم، فإن المفاوض الجيد هو من يتمتع بصبر غير محدود، مع حزم وتواضع في آن، كما ينبغي أن يكون مراوغًا دون أن يكون كاذبًا.
والحال، فبالنسبة لما ظل يدور، ولا يزال، من مفاوضات بين الحكومة ومتمردي قطاع الشمال، ظلت تفتقر- ليس فقط – إلى الحد الأدنى من الكياسة واللباقة والمهارة التي تجعل المراقب يتفاءل بتحقيق تقدم فيها، بل إلى الإرادة اللازمة لإيجاد حلول غير عنيفة للقضايا موضوع الخلاف.
أكثر من ذلك، حتى تلك القضايا التي ظلت مطروحة على سطح طاولة التفاوض بين الجانبين لسنين عددًا، تبدو الآن وكأنها عناوين وهميّة – مُضللة – لأخرى (تحت الطاولة)، وهي في الغالب تنحو مناحي شخصية من شاكلة المحاصصات في الوزارات ومستويات الحكم الأخرى، فيما تتراجع القضايا الرئيسة مثل حقوق المهمشين ونظام الحكم – يومًا بعد آخر – إلى أماكن معتمة.
بالتأكيد، لم أستخدم عبارة (طاولة هرمة) لتوصيف ما يدور في أديس أبابا الآن من قبيل السخرية أو المماحكة (الكتابيِّة)، بل أعني ما أقول، لجهة أن الأطراف المُتفاوضة ما إن تتقدم بأجندتها الحقيقية حتى يحدث تقدم مماثل نحو إنجاز حل نهائي، لكن ما إن يلج الجميع في التفاصيل الأخرى حتى يعود بهم التيار إلى اليابسة دون صيد وفير.
والحال، أن الأطراف كلها لم تتقدم إلى الآن برؤى (مُكربّة) وتفصيلية تتيح للمراقبين والمحللين التنبؤ بإمكانية نجاح التفاوض الجاري، لذلك وفي ظل هذا الغياب للرؤى فإن المراقب لا يجد بُدًّا ولا سبيلًا غير أن يتنبأ بما ظل يحدث في الجولات (الفشل)، والعودة مرة أخرى إلى المربع الأول.
وكأنها غير معنية بالوقت الذي كلما مضى ساءت الأمور وانحدرت أكثر، ظلت أطراف المفاوضات تنعقد لتنفض دون أي شعور بالمسوؤلية، فيما تزداد معاناة المواطن – خاصة في مناطق النزاعات – لتصل حد الكارثة.
بطبيعة الحال، فإن هُنالك دومًا حلول ما، إلا أنها لن تغدو كذلك كلما تسرب الوقت، وكلما أدارت الأطراف ظهورها عن الحل الأمثل وولت أدبارها عن الحقائق، وهكذا فإن دولة غنيّة نسبيّاً كالسودان (ثروة مائيّة وزراعيّة ومعدنية)، غدت بفعل الأنانية السياسية محض جثّة يتم تداولها على طاولات مفاوضات هرمة ومتداعية.
عبد الجليل سليمان – (الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي)