عبد الجليل سليمان

إلا وله أجنحة

والشعر، شعر أنسي الحاج، والنثر نثره كذلك: “في وقت من الأوقات لم يكن أحد. كان الهواءُ يتنفّس من الأغصان والماء يترك الدنيا وراءه. كانت الأصوات والأشكال أركاناً للحلم، ولم يكن أحد. لم يكن أحد إلاّ وله أجنحة. وما كان لزومٌ للتخفّي ولا للحبّ ولا للقتل. كان الجميعُ ولم يكن أحد. أحدٌ لم يكن كاسراً”.
أما الآن، فعليك أن تُعرِّف بنفسك أولاً، لكي تعترف بالآخر. والآخر هو (الجنوبي) الجميل، الجنوبيّ المحض لا السياسي ولا المثقف، الجنوبي العادي، البسيط، المركب، المنسرب في محيطه والمتفرد، البائع، عامل البناء، الرسام، الطالب، والسابل نهارًا في شوارع داون تاون المدينة، وليلاً في أزقة قاعها البعيد. الجنوبي حين يغني يقول: “أنا إبن الشمال سكنتو قلبي/ على إبن الجنوب ضميت ضلوعي/ أنا أم درمان).
والجنوبي المثقف حين تحاوره يقول: “في الدمازين، عندما ذهبت الى فندق، طلبت منى الموظفة جواز سفري. وعندما قدمت لها جوازا سوداني، سألتني إذا كنت بالفعل سودانيًا؟ وبدون خجل، قالت لي: ظنتك من جنوب أفريقيا”، هذا ما قاله البروفيسور (جوك مادوت جوك)، في حوار أجراه معه الأستاذ (محمد علي صالح) في واشنطون (2010م). ثم وبعد حين وفي إجابة عن سؤال آخر/ قال: “لذلك كله، عندما أصوت في الاستفتاء، سأصوت للانفصال، بدون رمشة عين”.
وفرق كبير بين التصويت من أجل نيل الاستقلال (الانفصال) الجغرافي، وبين العلاقات بين الشعوب (الوحدة الوجدانية)، سمِّها، أو دعها تكن (التعايش المشترك)، تلك مسألة حيوية ومهمة، ومنها: علاقات حسن الجوار والدخول والخروج الآمنين، والمصالح المشتركة.
وفرق كبير أيضًا بين موقف سياسي من شعب، وموقف مماثل من حكومة، خاصة وأن لا حكومة في هذا الجزء من العالم تستطيع أن تِدعي أنها تمثل شعبها، فإما (ثورية أو انقلابية)، وكلتا الحالتين غير شرعيتين في الأصل.
والأصل في كل ذلك الشعوب. الشعوب المقهورة هنا وهناك، الشعوب التي باسمها تُشعل الحروب، وتُتخذ القرارات المميته جدًا. هذه الشعوب تستطيع أن تتعايش إلى حد الذوبان عبر الحراك الديموغرافي الأزلي، عبر الهجرات الكبيرة التي تصهر الثقافات بعضها البعض، وتذوِّب الأعراق، وتنقل الغناء والموسيقي والرقص. هجرات إلى حيث الأمن أفضل، والزرع أنضر، والماء أوفر، هجرات لإصابة دنيا لم تعد متوفرة حيث المنشأ/ المنبت، ومنها أن تُهاجر لتحوز امرأة (تنكحها)، أو تحصل على علم يُنتفع به.
ليس الآن فحسب، فمفهوم التعايش بين الشعوب قديم، وهو من حيث (اللغة) الصلدة، ليس إلاّ تلك العلاقة بين نوعين أو أكثر من الأحياء يستفيد كل من الآخر، أي أنَّه عبارة عن تفاعلات ثابتة وطويلة الأمد قد تكون مفيدة أو حيادية أو ضارة لأحدها أو جميعها، لكن حين يأتي علم الاجتماع فإن التعايش يُصبح: “قبول رأي وسلوك الآخر القائم على مبدأ الاختلاف معه واحترام حريته وطرق تفكيره وسلوكه وآراءه السياسية والدينية، كما أن التعايش وجود مشترك لفئتين مختلفتين وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والأحادية والقهر والعنف”، وعليه نلخصه كما يلي: “علاقة تفاعليَّة, في بيئةٍ مشتركة, بين فئات مختلفة, بغرض تحقيق فوائد أو تبادل منافع, في ظل جوٍّ من الاحترام والمودة”.
بصراحة: من يرفضون الآخر المختلف عنهم، فإنهم بالتأكيد لا يقبلون بعضهم البعض. وما يحدث الآن هنا أن كل من تتحدث إليه يظن أنه الوحيد الذي له أجنحة.