جاء الانسحاب الروسي المفاجئ من سوريا متسقا مع سياسة الصدمات التي ينتهجها الرئيس فلاديمير بوتين.. فما هي أسباب هذا الانسحاب؟.. هل تحققت أهداف روسيا من التدخل؟.. أم أن خلافا نشب بين بوتين وبشار الأسد بشأن العملية السياسية الجارية؟.. أم هل هي الكلفة المالية العالية للتدخل والخوف من التورط في مستنقع شبيه بالتورط الأمريكي في أفغانستان؟.. هل كان للتحرك الإقليمي المناوئ لروسيا بقيادة السعودية ومناورات رعد الشمال أثر في قرار الانسحاب؟
بالطبع قد تذهب التحليلات السياسية للانسحاب الروسي من سوريا بعيدا إلى حد التعارض، بيد أن هناك شيئا مشتركا يربطها؛ وهو أن روسيا لا تتحمل بقاء طويلا في سوريا وعينها ليست على التجربة الأمريكية الماثلة في أفغانستان فحسب، بل على تجربتها هي في أفغانستان والسابقة للتجربة الأمريكية، وهما تجربتان مريرتان تجرعهما البلدان زعافا علقما.
بعد خمسة أشهر فقط من التدخل السافر قرر الدب الروسي الهروب شمالا مع بدء ذوبان جليد الصمود المزعوم، ويقول بوتين مبررا انسحاب قواته بأن بقاءها بات مكلفا وقدر كلفة العملية العسكرية في سوريا التي بدأت في 30 سبتمبر الماضي، بـ33 مليار روبل (نحو 482 مليون دولار)، وأصبح يؤكد أن التصعيد العسكري ليس من مصلحة روسيا. وقد مثّل إسقاط تركيا لطائرة روسية هزة كبيرة.
ورغم أن إعلان موسكو لأسباب تدخلها في سوريا ظل مصحوبا بزعم محاربة الإرهاب المتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، إلا أن الجيش الروسي ترك من خلفه تنظيم الدولة يسيطر على مساحات كبيرة من سوريا. بل ما زال ذات التنظيم يحتفظ بجثة مستشار عسكري روسي قتله غرب تدمر في سوريا.
لقد كانت العمليات الروسية موجهة ضد الشعب السوري ولم ترع إلًّا ولا ذمة في الأطفال والنساء.. وقام الطيران الروسي بأكثر من تسعة آلاف طلعة جوية مستخدما أحدث الأسلحة، مثل إطلاق صواريخ من طراز كاليبرا فضلا عن صواريخ برية يبلغ مداها أكثر من أربعة آلاف كلم، على أهداف مدنية في المناطق التي ثارت على نظام الأسد الفاشي.. وتفاخر بوتين بعد قراره الانسحاب بأن فترة تدخل جيشه في سوريا كانت أفضل فرصة للتدريب القتالي، وأن الأسلحة الروسية أثبتت فعاليتها.
ما يمكن تأكيده أن روسيا تركت نظام الأسد أكثر قوة مقارنة بفترة ما قبل تدخلها لكنها في الوقت نفسه لم تستطع القضاء على المعارضة الباسلة.. وشدد بوتين الذي تأخذه العزة بالإثم، على أن بلاده ستواصل دعم الأسد، وأن بإمكانها تعزيز وجودها العسكري مرة أخرى خلال ساعات إذا اقتضى الأمر.
وترى صحيفة فايننشال تايمز البريطانية أن بوتين منع بالفعل ما يُعتقد أنها آخر محاولة أمريكية للإطاحة بحاكم قوي مستبد، كما أنه حافظ على نفوذ بلاده في الشرق الأوسط وعززه، وأجبر واشنطن على الاعتراف بأنه جهة مهمة لتقرير مستقبل سوريا. وترى الصحف الأمريكية أن بوتين متقدم في تفكيره على الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حيث تدخل في سوريا وتمكن من تغيير موازين القوى لصالح الأسد، وأنه خرج من المستنقع السوري بالطريقة التي دخل بها فضلا عن حفاظه على روح المبادرة في سوريا.
وهناك من يرى أن محاذير بوتين من التورط أكثر في سوريا جعلته يضغط على الأسد للقبول بحل سياسي وهو ما رفضه الأخير مما دعا بوتين للانسحاب غاضبا، ومما يعزز هذه الفرضية – غير رغبة موسكو في الانسحاب بأعجل ما يكون – قول بوتين إنه لا يعتقد أنهم قادرون على فرض حل سياسي على النظام السوري. وعبر بوتين عن أمله في أن تغلّب جميع الأطراف المنطق في سبيل عملية السلام الجارية في جنيف.
وفي ظل الأزمة الخليجية الإيرانية بسبب روسيا والتحركات السعودية على وجه الخصوص برز تساؤل عن تأثير الدور الخليجي في الملف السوري وقرار روسيا الانسحاب..فقد سبقت قرار الانسحاب الروسي مناورات رعد الشمال التي اعتبرت واحدة من أكبر المناورات العسكرية في العالم والتي شهدها قادة وممثلو 20 دولة عربية وإسلامية بمشاركة 350 ألف عسكري بمنطقة حفر الباطن السعودية. وقيل إن الرئيس أوباما يعتزم القيام بزيارة إلى السعودية يحضر خلالها القمة الخليجية المقرر عقدها في الرياض 21 أبريل المقبل، وذلك بعد التصريحات التي أثارت استياء السعودية والتي أدلى بها لمجلة أتلانتيك الأمريكية منتقدا الدور الإقليمي للسعودية. وشدد المتحدث باسم البيت الأبيض الأسبوع الماضي التخفيف من وقع انتقادات أوباما بقوله إن “الرئيس أوباما يقدر العلاقات الأمنية بين واشنطن والرياض”. وتعتبر مشاركة أوباما في القمة الخليجية اعتذارا دبلوماسيا عما ورد منه.