أنتولوجيا الكذب السياسي

يُقال والعهدة على الرواة إن أحد أفذاذ الإسلامويين السودانيين أفتى لشيعته بـ “أن الكذب في سبيل الدعوة أو تعضيد حكم الشريعة أونشر الدين، حلال”. وقبل نيف وعام على وجه التقريب اعترف الكاتب ذائغ الصيت في ذات المسار الفكري والسياسي إسحق فضل الله بأنه يكذب بقوله “أنا مُحارِب، أُحاربُ بالكذب، والدِّين لم يُحرِّم ذلك”. قبل ذلك بكثير، أطلق، جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازي مقولتِهِ الشهيرة “اكذب اكذب حتى يصدقك الآخرون، ثم اكذب أكثر حتى تصدق نفسك.
والحال، أن الكذب سلوك قديم، ليس حصريًا على السياسيين فقط، ولكن، ولأنهم – من جانب – يحاولون دائمًا أن يُظْهِروا حِرصًا ودأبًا شديدين على الصدق أكثر من الآخرين، ولأنهم – من آخر – شخصيًات تتولى أمورًا عامة تتجاوز ذواتهم إلى أخرى، فإنه غير مسموحٍ لهم بالكذب، خاصة في ما يتعلق بأمور إدارة الدولة وعلاقاتها الداخلية أو الخارجية. لذلك فإن تخصيص أنتولوجيا لأكاذيب السياسيين أمر عسير، إذ أن كلهم مارسوا الأمر بشكل أو آخر، وبتبريرات مختلفة، بعضها ذات طابع أخلاقوي دينوي، وبعضها أمني/ سلطوي/ دنيوي، وأخرى ذات طابع شخصي/ مصلحي ضيّق، بيد أن هذا (العُسر) لا يمنع من بذل ما تيسر من تلك الأنتولوجيا ولو خطفًا.
ومنها، أن مجلة (Alles Schall) الألمانية، كانت نظمت أكتوبر من العام المنصرم، تصويتا غير مألوف تحت عنوان (الكذاب الرئيس لهذا العام) في محاولة لكشف هوية أكثر السياسيين كذبا في العالم لسنة 2015. وبحسب الصحيفة، فقد اختار المشاركون في التصويت أشهر خمسة زعماء بالكذب في العالم، من بين قائمة تحتوي العشرات من السياسيين والزعماء في العالم، الذين اعتبرهم القراء أقل صدقا وأقوالهم لا تدعوا إلى الثقة، مشيرة إلى أن عدد المشاركين في التصويت فاق الـ 3 آلاف شخص من 40 بلدًا حول العالم. وبحسب نتيجة التصويت، حلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على رأس قائمة الكذابيّن، تلاها باراك أوباما ثم رجب طيب أردوغان، فيما حصل بنيامين نتنياهو على المركز الرابع والأوكراني بيترو بوروشينكو حل خامسًا.
بطبيعة الحال، لا ينبغي لنا هنا، أن نمضي دون الاحتفاء بعبارة الأميركي الساخر (مارك توين)، إذ قال ” تجوب الكذبة نصف العالم إلى أن تلبس الحقيقة أحذيتها”، ولربما ذلك ما يجعل السياسيين يعتنقون الكذب، حتى طوّروا قدرات فذة على تدويره إلى ما لا نهاية، ليصير حقيقة ساطعة. وهذا ما كتبه إسحق فضل الله نفسه، الأسبوع المنصرم “والمفاصلة خدعة صنعها الترابي ونحن بالنقد العنيف نساهم أيامها في غطاء الخدعة”.
صح، أم لم يصح، ما ذهب إليه إسحق، فإن الثابت منذ مقولة “اذهب إلى القصر رئيسًا، وسأذهب إلى السجن حبيسًا” وإلى الآن، أن الكذب على الشعب أضحى ممارسة سياسية مفضلة لدى كافة الأحزاب لا سيما الإسلامويين، الذين برعوا فيه براعة لا يحسدون عليها، فمن أين يمتلكون- يا ترى – هذه الطاقة العجيبة لجعل نصف المائة عشرينًا، وضعف الخمسة سبعينًا، وواحد زائد واحد ثلاثة وثلاثين؟ من أين لهم هذه العبقرية الفذة التي تجعل من الكذب ابن عم السياسة (لزم)، حتى صارت العلاقة بين السياسة والأخلاق في تضاد وتنافر، فيما شغل الكذب موقعًا مرموقًا في الزمن السياسي وفرض هيمنته عليه، لدرجة أن السوق السياسية أضحت سوق الكذابين بامتياز.

Exit mobile version