سدنة الصحافة القديمة

والصحافة أخبار – لا ريب – لكن الأخبار قصص لا جدال، ونحن الحكائين نفشل في تحويل الخبر إلى قصة مشوقة، بدعاوٍ يطلقها من يعتقدون أنهم حُرّاس المِهنية الصحفية، وكأن القصة ستقصم ظهر الحقائق، وهذا افتراء على الصحافة بالكذب، إذ أن الكل (خارج دوامتنا) في صحافة الخرطوم المائلة، يحكي جنبًا بجنب البقرة المقدسة (عناصر الخبر، الــ…. الــ…) (الهرم المقلوب، الماسية، والـ…. والـــ…).
لن تعود الكتابة الصحافية كما كانت من قبل، أي شيء في هذه (الدنيا) لا يمكن أن يبقى كما هو، هي صيرورة الحياة، تطورها، تحديثها، ونظل هنا نجتر (ماضي الذكريات) في كل شيء، ونطلق عليه (الزمن الجميل) ننجر إليها من آذاننا طائعين مختارين، نهرب من واقعنا الرث إلى تأريخنا الأكثر رثاثة، وكأننا، كما يقول سبحانه وتعالى (حُمر مستنفرة فرت من قسورة).
هذا الاستنفار من الحاضر وإيلاء الأدبار إلى الماضي، ليس لن يفيدنا شيئًا وحسب، بل يجعلنا منزلقين دومًا إلى حالات متصلة من الكذب والإنكار، فمن يقول إن الكتابة الصحافية كانت في الماضي أكثر تجويدًا ودقة فليأتي بدليل، لأن ما أعرفه – أن العكس هو الصحيح- ودار الوثائق القومية وأرشيف الصحف القديمة موجود، والأخطاء كانت بالجملة واللغة كانت أكثر ركاكة مما هي عليه اليوم. لكن هذا لا يكفي.
والحال، أن سدنة الصحافة القديمة، لا يقوون على المرافعة، يعجزون عن الأتيان بما يعضد حججهم، فالعالم أضحى كتابًا مفتوحًا بين يدي الجميع، والصحف معلقة على مشاجب الانترنت (الكوم بقرش والدقة بلاش)، وعليه فإننا نحاجج من ما يجاورنا حتى لا تنهكنا المسافات البعيدة بالذهاب إلى الصحف الأميركية والأوروبية، وفي صحيفة الغد الأردنية يكتبون أخبارًا أيضًا، ولا يسلقون بيضًا، وها هي “قبل أن يسيطر مسلحو (داعش) على مسقط رأسها في الموصل، (يونيو) العام الماضي، كانت فهيمة عمر تدير صالوناً لتصفيف الشعر، ولكن مسلحاً من داعش أغلق محلها، متسبباً قي خسارتها لمصدر دخلها الوحيد، فعل ذلك باعتبار أن صالونات تصفيف الشعر تشجع (الفجور)”.
وفي موريتانيا التي تشبهنا في الأفرقة والثوب النسائي والغناء، يكتبون أخبارًا في صُحفهم ولا يفرشون عليها (تُرمُسًا)، يكتبون على نحو من: “شُغل الناس في الحي بصوتها العذب الذي يهز القلوب ويثير الأشجان، صوتها حين تمدح النبي الكريم يأتي بالنساء والرجال – إلى حيث يصدح. كانت الفتيات والفتيان والصبية يقلدون صوتها، فتراهم زمرا يتحلقون في الأزقة ويرفعون أصواتهم بالأناشيد والمدائح التي حفظوها عنها ويقلدون حركاتها. الآن تجلس المسكين وهي في عقدها الخامس بين أركان غرفة ضيقة لا تتسع لغيرها تبحث في الفضاء حيث المجهول، عن من يعينها على تدبر شؤونها الخاصة من قضاء حاجة وشرب وأكل، بعد أن أُصيبت بنوبة قلبية”.
بالتأكيد، كل الــ…. الــ…. المهنية والحرفية مهمة جدًا، لكن بجانبها لا بد من (حكاية شيقة)، قصص شيقة لينة وليست أخبارًا صمدية متحجرة ومتخشبة، يحاجج بها من يحاجج ضد التحديث، ضد الإبهار، وضد صيرورة التطور الحتمية.
عبد الجليل سليمان – (الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي)

Exit mobile version