تأملت ما أثاره الكاتب المقتدر محمد لطفي في استفساره عن أسباب أزمة المياه ودور المواطن المفترض في حدوثها، وعزا ذلك بافتراض أننا في السودان نستهلك من المياه أكثر مما يستهلك المواطن الألماني.
وقد أورد في عموده النص التالي:
“سؤال يشغل بالي حقا.. هل يستعمل مواطن الخرطوم مياها أكثر من مواطن المدن الألمانية؟ أم أننا نمارس هدرا للمواد كما في كل شيء؟”
وتأتي أهمية المقال من حيث تنبيهه المواطنين إلى قضية عامة تتجاوز أزمة المياه وتتسع لتسلط الضوء على سلوكين سالبين من مجموع سلبيات أخرى تطبق على عاداتنا كسودانيين.. وهما الإهدار في استخدام ما تحت أيدينا، ليس فقط في المياه.. وما ينتج من ذلك الإهدار من عناء ومشقة. ويلاحظ أنه بدلا من أن نواجه سلبياتنا بنظرة ناقدة فاحصة تعيننا بتجرد ومسؤولية على تصحيح أخطائنا فإننا نعوض عقب كل أزمة في وحل من التناقضات وتنقلب المعضلة الحقيقية إلى عراك سياسي يلقي فيه المواطن اللوم على الحكومة والحكومة من جانبها عليه.. وهكذا تتوالى الأزمات بإيقاع رتيب وعلى مدار العام مرة في الغاز وأخرى في زوغان الدقيق وثالثة في صفوف الخبز.. فلم قبيح المشاهدة يؤكد في تواليه عطبا في بيئة السلوك السوداني يلحق بالمسؤولين والمواطن على حد سواء.
مثل هذه السلوكيات تستوجب تقصي العلماء والباحثين لها بعيدا عن أي حقل سياسي.. ثم إني أشير هنا إلى وجه من أوجه الغرابة المصاحبة لمقال الأخ لطفي.. فقد طرح صحفي ألماني ذات السؤال في جريدة (دي تسايت) وتساءل بدوره: لماذا تصل نسبة إهدار المياه في الأحياء التي يعيش فيها المسلمون والمهاجرون أرقاما أعلى من جميع ما يستهلكه سكان الأحياء الغالبية فيها ألمانية وأوربية؟ والمقصود بهذه الأحياء الخالية من المسلمين والمهاجرين. والأحياء الراقية بقامة أغنيائها التي تتطاول أعناقها على مناكب الشغيلة وسابلة المهاجرين القادمين من البلاد العربية والأفريقية وآسيا. ولا أريد هنا أن انتعل حذاء أخينا (الزين) الذي سبقني في هجرته إلى بلاد الصقيع، غير أني اعترف أن فتنة الاغتراب تصقع من يلازمها بما فيها من تطوير الحضارات وتناقض الطبائع والسلوك، وقريبا من ذلك فإن ملاحظة الألماني وما يشغل بال لطفي هما وصل للبعد الإنساني في المسألة كل يطهه من موقعه وأيا كانت درجة الخلاف في البحث عن إجابة، فذلك اختلاف مقدار وليس اختلاف أصل.. الأخ لطفي حصر المسألة في المواطن السوداني بينما وسعها الإلماني لتطبق على كل المسلمين والمهاجرين. يا له من عالم غريب فإلى عهد قريب كان مثل هذا السلوك يبقى محصورا في حدود بلده، فإذا به الآن يجتاح الحدود ليصبح شأنا يستوجب المقارنه بين مواطن سوداني وآخر ألماني!!
وأبعد من ذلك فإن أوسع مستحدثي الخيال من الشعراء والفنانين لم يكن يتصور قبل عقد من الزمان أن تنشر مقارنة بين مواطن سوداني وآخر ألماني في صحيفة سودانية واسعة الانتشار، لكنه عالم جديد تهاوت أركانه وتصدعت حدوده ففي العلاقات الدولية استلب الأقوياء معنى سيادة الدول وانبعث من جديد المفهوم الإمبريالي القديم المسمى عبء الرجل الأبيض (white man burokn) بباعث العظمة لصاحب القوة الذي يملك المال والسلاح.. وفي عالم الشعوب البائسة المقهورة نسفت تماما علائق الإخاء والمواطنة والتسامح وغدرت بأهلها مصادمات التفتت في إثبات وجهويات متصارعة حطمها التقاتل الذي لا تردعه رحمة ولا إلفة. إنها (العولمة) التي دمرت كل ميراث سبقها.
المسلمون والمهاجرون الذين نسب إليهم إهدار المياه يعيشون في أحياء ذات كثافة سكانية عالية، وقدرة شبابها المهاجر على التناسل مستمرة على عكس المفهوم الأوروبي الأمريكي للعلاقات الجنسية بما يؤمن به عدد واسع من الشباب الذي يروج لزواج لا مجال فيه للإنجاب. وقضية تدني الإنجاب أو انعدامه من المشكلات الرئيسية التي تواجه الآن القارتين (أوروبا وأمريكا) وتضاعف الاهتمام بها كما نشاهد في كل القنوات مع ازدياد أعداد المهاجرين المسلمين الحالي.. إن منظمات يمنية متطرفة ترفع الآن شعارات وتسير مظاهرات حاشدة ضد المسلمين بحسبانهم يسعون الآن بتكاثرهم لجعل أوروبا قارة مسلمة.. وتنبه الأرقام المتداولة أن أوروبا ستكون في منتصف هذا القرن (21) قارة عجوز يغيب فيها عنصر الشيوخ المعاشيين القابضين في المنازل وغير القادرين على الكسب على الشباب القادرين على الإنتاج مما يهدد تدهور الاقتصاد وتردي الخدمات الأساسية.
وبينما يلقي هؤلاء اللوم على تكاثر المسلمين الذين وصفوا بأنهم يتناسلون كما تتناسل الأرانب.. يغضون الطرف في ذات الوقت عن المنظمات والجمعيات الشبابية التي تتبنى أن فكرة الزواج من أجل الإنجاب هو عادة عفا عليها الزمن ولم يعد لها مبرر في فيوض العصر الحديث – ويقولون تكفينا في علاقة الصداقة (girl friend ) الحب والسعادة – ومن مهددات الإنجاب جمعيات الشواذ الذين استبدلوا لقبهم بالمثليين من الرجال والسحاقيات من النساء.. وقد اقتحم هؤلاء بدعوتهم المجتمع للاعتراف من جهة أن هذه العلاقات الشاذة شأن (طبيعي) حتى ظفروا باعترافات قانونية تجيز لهم الزواج والميراث وحتى التبني.. فتأمل بهذا أن ينشأ طفل حضن رجلين يتزوج أحدهما الآخر؟!
وحتى تكون المقارنة عادلة بين استهلاك السوداني والألماني أشير إلى أن المقارنة كانت من جهة الصحفي الألماني غير صحيحة ولا واقعية، فهو قد أهمل عمدا أو جهلا الفوارق الدينية والتقاليد المكتسبة للمسلمين والمهاجرين القادمين من البلاد الحارة.
وأهم من ذلك استخدام المياه الزائد عند المسلمين لا يكون إهدارا ولكنه وسيلة اساسية من فرائض دينهم كما في الوضوء والغسل واستحباب الاستحمام خاصة لصلاة الجمعة، كما أن أغلب المهاجرين الأفارقة وغيرهم من سكان المناطق الحارة يكون الاستحمام عندهم مألوفا خاصة في حرارة الصيف ولهيب الشمس المحرقة التي تفرز العرق الذي لا يزيل رائحته غير الاستحمام. وعلى صعيد المقارنة، فإن الأوروبي المولود في بلاد يندثر الإنسان فيها من حفيفها البارد ربما اكتفى بالاستحمام مرة واحدة في الأسبوع.. وبالمناسبة لم أشاهد يوما واحدا أوروبيا أو أمريكيا (أبيض) يعرق مهما ارتفعت درجات الحرارة التي يتصبب من ارتفاعها العرق منا نحن السود.. ويا للعجب نحن نعرق حتى عند ارتفاع درجات الحرارة بمقياس الدول الباردة وهم لا يعرقون.. اللهم هبوبك يا الله.
ومثلما نندهش نحن من خلو أجسامهم من العرق فهم يندهشون أكثر لهذا الأسود الذي يتصبب عرقا في أوروبا (ويتهبب) على عينك يا شاهد. وسبب آخر في زيادة استهلاك المسلمين للمياه أنهم يشربون الماء مع الطعام في مقابل المشروبات الكحولية (البيرة) التي لا تخلو منها ثلاجة أو مائدة من موائدهم، وأشير هنا إلى أنني لم أقصد بهذا التوضيح المقارن رفع اللوم عن سلوكنا الاجتماعي في إهدار ما نحب وما نفقد ولعل قيمة الوقت المفقودة في كثير من تصرفاتنا هي الأكثر جموحا حتي طغت عبارة (مواعيد سودانية) في وصف تلكؤنا عند الإيفاء بالزمن، فتأملوا غياب ساعة الفطور وحتى ساعة الصلاة وإطلالة الشباك للموظف المسؤول، وهو يرشق المواطن القادم إليه لأداء غرض، وهو يرمقه بنظرة لا تحمل أدنى تقدير لمعاناته ومن بعدها يقول (تعال بكرة أو الموظف المسؤول مافي).
وما دامت الفرصة موانية للمقارنة السودانية الألمانية، فأشير هنا أن الألمان يحسبون من شدة انضباطهم الوقت بالثانية.
وإذا جاز لي أن أضيف في هذا الشأن، فأذكر أن ألمانيا كان لها مجال السبق في تأسيس أهم الأجهزة الإعلامية (التلفزيون) في عهد الرئيس عبود واتبعته بأسيس معاهد وكليات التدريب المهني والإنتاج السينمائي، وفي كل هذه المجالات كان التدريب في معاهدها متصلا للصحفيين والمذيعيين والمخرجيين الذين كانوا يبعثون على نفقتها كل عام وبتدريب زمني يصل إلى عامين يتهيأ بعده المبعوث ليعود خبيرا في مجاله، ولعلها تكون فرصته أن يبحث من بيدهم الحل والعقد في إحياء هذا المجال، ولن يكون ذلك صعب المنال، ففي فترة وجودي هناك كنت أقابل مبعوثين من شتى الأقطار الأفريقية والعربية والآسيوية للتدريب في هذه المجالات، وبالطبع لن يكون الشأن مستعصيا علينا إذا سعينا لذلك.
وفي الختام أشير إلى الدور الذي لعبه العلماء الألمان في الاكتشافات الأثرية في البجراوية وشمال السودان، وهذه الاكتشافات تعد موردا جاذبا للسياح في أوروبا والإعلان عنها سيكون مصدرا مهما للتعزيز بالتراث السوداني.
ولا ينتهي السرد دون ذكر العون للمعوقين فقدر هؤلاء أن نتسابق لإغاثتهم بكل ما يتاح من فرص، وفي ألمانيا منظمات وجمعيات تقدم عونها للمعوقين في العالم، المهم هو السعي الذكي المصحوب بتخطيط على موثق فإذا تم ذلك فيستحقق عونهم بإذن الله.
حسن عبد الوهاب