لكن، ما الذي حدث بعد ثلاث أو أربعة عشر عاما قضاها المعلم السابق المغترب الحالي المواطن (سين) في بلاد البحر والريال زائد ريال يساوي ريالين ويجدع بعيد، هل تقلصت متلازمة الكوابيس أم استمرت في ارتفاع. تحكي زوجة (سين) إنها بعد أن وصلت إلى ما يشبه التعايش السلمي مع كوابيس بعلها المتداخلة سودانا وهجرة، انتبهت فجأة أن هذه الكوابيس تكشف إلى حد كبير ذلك الوضع الساكن غير المتحرك الذي باتوا يحيون فيه ولم يخرجوا من دائرته قيد أنملة. فطن الإسمنت الذي بيّن لها قبل سنوات طويلة أن (سين) شرع بالفعل في تشييد منزل أحلامهم في أم درمان وأفرحها كثيرا؛ ظل – طن الإسمنت – كما هو يتقافز من كابوس إلى آخر مرفقا بكلمات من مثل “السنة دي ينتهي إن شاء الله، السور، السايفون.. ميتين مليون.. شنو، منو يا زول” ثم يستيقظ (سين) وهو يسعل بشدة.
ومن حالات الكشف المرعبة التي أوصلت الزوجة إلى وضعية التردي النفسي المريع الذي أصاب زوجها “سين” تلك الكوابيس الصبيانية التي ما فتئت تنتابه بين فترة وأخرى، إذ يصعد فجأة على موجة حنين مربك ومحزن يأخذ فيه سمتا طفوليا من حيث نغمات الصوت والصراخ والبكاء والعويل، كانت تسمعه يهتف فجأة من عمق النوم: “أكله التمساح، شليل وين راح، شد واركب شد واركب، دومتي ما دومتك” ثم يبكي بصوت بالغ الحزن “حبوبة، يا حبوووبة، يا فاطنة السمحة الغول جاك.. ما تموتي يا السمحة”، وأحيانا كأنما يتقافز على الفراش “القمرا يا القمر، السنسنة الحمراء”، وفي مرات يغني بحنجرة مراهق أجش الصوت فتتدفق الألحان من بطن الحلم – الكابوس: “أبوي يا فارس الحوبة، أبوي دخر السنين لينا”!
لكن، أكثر ما كان يزعج زوجة المواطن “سين” ويعيدها إلى سنوات بداية المتلازمة البعيدة، تلك التنهيدات الكابوسية التي كان يطلقها بَعلها قريبا من الفجر ومن وسط النوم الكابوس، كانت تسمعه يهمس ويئن: “عايز أنوم، محتاج أنوم، أهل الكهف، أنا الحمار، حمار النوم.. أنوم، بالوصيد، أنوم، كلبهم، يا ناس أنوم”.
ما بين سفر من أم درمان وعودة إلى بلاد الغربة ومنها وبالعكس أخذت (متلازمة الكوابيس السينية) تتنامى وتتطور فيروسياً وتصبح معدية وأكثر خطورة، انتقلت أولا إلى الزوجة التي انحصرت كوابيسها في نداء جارات كثيرات عبر ملايين الحوائط الطينية المنسية؛ تسألهم عن حفنة شطة ونصف ليمونة وكسرة ملاح، ثم انتقل الفيروس إلى أكبر الأولاد الذي كان يردد في نومه شعرا سمعه في عوداته الأخيرة إلى البلاد: “وين بلدك، ضربته في مثل، وين نحنا، مرقت على عجل”!
الولدان الآخران كانا يسهران أحيانا متنقلين بين كوابيس الأب والأم والأخ وهما مندهشان من بيت الحنين هذا.