آخِر المشاهد التي عاينتُها للدكتور حسن الترابي كانت مطلع 2013 في مؤتمر بقطر عن الإسلام السياسي ومستقبله. كان «الإخوان المسلمون» يتهيؤون في كل مكان لاستلام السلطة أو المشاركة فيها طرفاً رئيسياً، باعتبارهم أكبر الرابحين من «الربيع العربي». قال الترابي: الفريق الوحيد المؤهَّل لتولّي السلطة في العالم العربي هم الإسلاميون! ووقتَها أيضاً ذهبتُ من الدوحة لتونس، لندوةٍ مماثلة، حيث ألقيتُ ورقةً اعتبرتُ فيها أنّ الإسلامَين، السياسي والجهادي، هما أكبر تحدٍّ للعرب والمسلمين في دينهم ودُوَلهم. ويومَها ردَّ عليّ أساتذة وسياسيون كان بينهم ليبراليون مسلمون ومسيحيون، وكان مما أخذوه عليَّ أنّ الإقصاء السياسي والثقافي أهمّ أسباب الثورات، وأنّ المنطق الذي اتبعتُهُ هو نفسُ منطق الأنظمة العسكرية والأمنية التي توشكُ أن تبيد مفسحةً المجال لأجواء الحرية والمشاركة دون إقصاء! حاولتُ إفهامهم أنَّ ورقتي لا تُعنى بالشأن السياسي، بل بالتحويرات والتأويلات التي أدخلها فرقاء الصحوة والتسييس على الدين، مثل مقولة تطبيق الشريعة، وأنَّ المهمة الباقية لدولة الإسلاميين هي تطبيقها، وليس حُسْن إدارة الشأن العام، ومثل مقولة الجهاد واستخداماتها الداخلية.
أذكُرُ هذا كلَّه بمناسبة وفاة الترابي؛ لأنه بخلاف كل الإسلاميين ما كانت عنده مشكلةٌ في هذه المقولة أو تلك، ولا في تطبيق الشريعة أو عدم تطبيقها. لقد كان همُّه «شخصياً ونرجسياً»: فهو يريد الوصول للسلطة بأي ثمنٍ ووسيلة. وعندما يصل ولو جزئياً فهو مستعدٌّ لتغيير الدين كلِّه، بما يتواءمُ مع هوى ومصلحة مَنْ ساعدوه في الوصول. لذلك فبينما كان عسكريو الأنظمة يخوضون صراعاً مصيرياً مع سائر الإسلاميين، خرج الترابي من سجن النميري ليتحالف معه، وليصبح وزيراً للعدل عنده! وعندما كان زملاؤه يميناً ويساراً يعاتبونه، كان عنده خطابان؛ فتارةً يقول إنه يريد اختراق نظام النميري لتوريطه وإسقاطه، وتارة أخرى يقول: همِّي تطبيق الشريعة، والنميري تعهد بتطبيقها، وأنا أتولّى ذلك! وما همَّه بعد إسقاط العسكريين للنميري عام 1985 الحفاظ على الديمقراطية، كما كان يزعم. بدليل أنه وجد عسكريين شباناً متحمسين له، ومعارضين لمحاولات الصادق المهدي رئيس الحكومة (أخو زوجته) الاتفاق مع غرانغ لمنع تقسيم السودان، فتآمر معهم ووضع البشير على رأس السلطة. وبينما حوَّل بتحركاته السودان إلى بيئة للحركات الإسلامية العنيفة، فإنه فلْسَفَ لمسألة تقسيم السودان التي زعم أنه حالف العسكريين لمنْعها!
لا يشكو الترابي من قلة العلم، ولا من قلة الذكاء، ولا من القدرة على التقلب بين النقيض والنقيض، بل كانت مشكلته الدائمة أنه ما استطاع أن يكونَ القوة السياسية الرئيسية، ليصل للسلطة بطريقة طبيعية. تقدم عليه دائماً لدى الناخبين المهديون والختمية. وقد أزعجه أشدَّ الإزعاج أن هؤلاء «التقليديين الأنذال» يضحكون على «العوام» ويحصلون على الأكثرية في الانتخابات، لكنه بالانقلاب عليهم مرتين ظلَّ عوناً للعسكريين، إسلاميين وغير إسلاميين، وكان حتى في زمانهم وزمانه يدخل السجون أو يضطر للهرب من السودان عندما يخشى سطوتهم!
الترابي ليس فرداً بين الإسلاميين، بل هناك كثيرون مثله، لكنهم لا يمتلكون جرأته، ليس على السلطة والنظام، بل وعلى الدين أيضاً. قلتُ له مرةً في الثمانينيات: يا دكتور حسن ما قلتَه في محاضرتك، فيه إخلالٌ بثوابت الدين! فقال: هل أنت أعلم مني بالدين لأنك خريج الأزهر؟ قلتُ: لا! فقال: دعكَ من المماحكة إذن، إنك تحب الشُهرة إذ تريد أن يقال إنك تجرأْتَ على الترابي!
الهيام بالسلطة هو الداءُ الأفظع عند الترابي، لكن الأفظع هو أنَّ مثقفين سودانيين وعرباً كباراً، وسياسيين أذكياء، ظلُّوا مُحازبين له ويمسكون بأذياله. قال لي مثقف ختمي: كان الترابي مرةً في المعتقل مع محازبين له، فخرج إلى السلطة وتركهم في المعتقل لأكثر من سنة، فلمَّا خرجوا أخيراً عادوا للالتفاف حوله، فقلتُ لأحدهم: كيف تظل معه، وقد خرج ليتولى السلطة وتركك؟! فأجاب: كانت تلك خطةً ذكيةً منه. فقلت: كيف؟ قال: حتى لا يظنَّ العسكريون أننا نريد عمل «بلوك» لأخذ السلطة منهم! الإسلاميون مثل خصومهم الجنرالات؛ هؤلاء لا يتعلمون من التجارب، وأولئك لا يتعلمون أيضاً.
*نقلاً عن “الاتحاد” الإماراتية