كأن العبارة الخالدة للمتنبئ (رجلاً ملأ الدنيا وشغل الناس)، قيلت لملك قديم ثم نام الشاعر العظيم نومته واستيقظ ليقولها مرة ثانية وأصيلة في دكتور “الترابي”، فالعبارة تناسبه تماماً وتفسر حياته بعدالة، وبالفعل كنا بعيداً عن كل تنظيماته وهو الذي ينفخ روحها ويغزيها ويلبي كل رغباتها حتى صار في مجتمعنا السوداني ظاهرة فقهية وسياسية وفكرية. عشرات الآلاف يتحدثون عنه كجزء من حوار ونقاش امتد من الدقائق والساعات والأيام والسنين، فملأ الدنيا فعلاً وشغل الناس فعلاً.
حسرتي لا حدود لها وأنا أبحث عنه لإجراء حوار مختلف، وذات الحسرة وقعت حينما عجزت عن لقاء “وردي” و”الطيب صالح” واكتفيت بحوارهما، ألقي عليهما الأسئلة وأتخيل نوع الإجابات. وبخصوص الراحل “الترابي” وعدني الدكتور “محمد الأمين” ثم “بشير آدم رحمة” بجلسة طويلة معه، وكنا نخطط أنا وصديقي الأستاذ “محمد الفاتح” لإجراء الحوار الفريد، وكان يبشرني بقبوله الحوار في انتظار تحديد المواعيد، ثم تأتي لحظة قريبة من أيام الرحيل كنت بمكتب الأستاذ “الهندي عز الدين” نرصد حواراً فلتة، فذكر (شهادتي لله) استحقاقات “الترابي” على حزمة من جرايده (آخر لحظة والأهرام اليوم والمجهر)، وأن لـ”الترابي” نصيباً من تلك الأموال لأنه ساهم في انتشارها وتوزيعها، وشرعنا (أنا والهندي) بالترتيب لحوار مختلف وضعت ديباجة من نوع الأسئلة… طبعاً…. ليس ميلاده ولا دراسته ولا حتى أفكاره، وعندي صياغة السؤال (علم معقد) يضئ ظلمات كثيرة وينتج تفكيراً وأفقاً وفتوحات لرجل في قامة “الترابي” يعتبر سؤالاً من طائفة (ما هي روح العبادة) داخل ميدان كورة القدم أثناء الـ(90) دقيقة… تخيل الإجابة وأحزن معي على ضياع فرصة العمر بعد إعلان وفاته عصر (السبت) وبلا مقدمات داخل مكتبه يناقش الشأن العام كما هو منذ أكثر من نصف قرن، ثم صورت “الترابي” في كتاب (الرجل الدولة) الذي تم منعه بنعومة وهدوء كان موضوعه الأساسي (علي عثمان)، ورسمته في عيون الإسلاميين مثل الشمس في رابعة النهار يصعب التحديق فيها، وفسرت احتفاء الإسلاميين بـ”علي عثمان” وكأنه يمثل انكسارات الشمس داخل صفحة النهر متحولة لقمر بلا أشعة ويمكن النظر له بمتعة.
حرصنا حضور ندواته وكأنه أسطورة زمانه، وتابعنا كل فتاويه وقرأنا كتبه ومذكراته، وكنا أحرص الناس على حضور مؤتمراته الصحفية، وكنت حريصاً في جميع حواراتي على تضمين سؤال عن ظاهرة “الترابي”، لم أخف إعجابي به مع إعلاني أن “الترابي” سيموت محسوراً لأن الإسلاميين لم يفهموه أو قل لم يتحملوا تلك الشمس الذهبية لينظروا ويحدقوا ويتغلغلوا ليكونوا مختلفين ومتقدمين بذات الفكرة ولكن بإضافات أصيلة.
رسمت ذات مرة مؤتمراً صحفياً للراحل “الترابي” ولم أورد كثيراً مما قاله بل رسمت صورته عن قرب، كان يمسك يدي ويتكلم كأنه صديق قديم وهذا حاله مع كل متحدثيه، يتحدث مع الآخرين (بعرفانية) نادرة ولا يعقب على مهاجميه ولا يذكر الأسماء والنعوت، شاهدته مرة وهو يجيب على طالبة من جامعة أم درمان الإسلامية مقدماً كلمة الأخت الكريمة، بينما رجل في قامة وصلف الدكتور “منصور خالد” يقدمه بالعالم الشيخ الدكتور.
كنت أرسم صورته من قريب، فكتبت بصراحة في ذلك التقرير الذي وقع في يد مدير تحرير مسكين وبيروقراطي جداً، كنت أرسم الكساح الخفيف الموقر من فوق كتفيه وارتعاش اليدين برشاقة، بينما عيناه الذكيتين ظلتا بالبريق الخطير واللماح، ظلتا بعافية كاملة، ورسمت الوجه الجاد الذي يتجمل على الدوام بابتسامة هي الابتسامة الوحيدة التي تحمل تفكيراً ورؤى وإشارات.
(التفكير الوجودي) الشيء الذي حفظ “الترابي” من ملامسة أي تهافت، ومن قديم الزمان كتبت مغالطة رياضية حول فرضية عابثة بتحويل الصفات، وقلت ما الصفات التي إذا أضيفت للإمام “الصادق” من شخصية “الترابي” ليصير الإمام مكتملاً وفعلت العكس، وكانت فكرة درامية جاء بعدها “إسحاق أحمد فضل الله” يضرب بعصاته البحر فكشف قائلاً إن “الترابي” هو أطهر من يمشي على وجه الأرض، وكان “الترابي” مطلوباً للعدالة بتوقيت المفاصلة وأدواتها. ثم جلست مع “صلاح قوش” مدير المخابرات السابق والرجل الذي نقل جهاز المخابرات لخانة ليبرالية ليست لها ما قبلها، وقال لي إنه تعلم قيمة العفو من “الترابي” حينما ذهب إليه فوجده بلا ضغائن ولا أحقاد، شربا القهوة وضحكا وفكرا في الذي يفيد الأمة غداً وقريباً من الحوار الوطني وتبدل الأوضاع. ذهبنا للعم المحترم “أحمد عبد الرحمن” نسأله عن (أسرار) لقاء “الترابي” و”علي عثمان” بمنزله وظننا أن بينهما إحن ثقال ولن يلتقيا أبداً لما فعله “طه” في تاريخ المفاصلة، ولكن التفكير الوجودي والرجل الذي عاش حياته مثل الأنبياء لم يترك مساحة للشيطان ليعيش فيها، وأشيع أن أحد الإسلاميين التقى “علي عثمان” في ردهات بيت المنشية وأساء له، فمنع الرجل من دخول المنزل وتم توبيخه فوراً.
شيء عجيب أن تجد وراء كل إسلامي أو غير إسلامي حكاية يشترك فيها الراحل ويكون بطلها بلسان المتحدثين، وشيء عجيب أن لا ينتصر “الترابي” لنفسه ولو في موقف يتيم واحد، وكل أنواع السلطة منثورة تحته كالملوك، وشيء عجيب أن يفقد رجل في مبادراته نيفاً وخمسون عاماً يفقد سلطة ومشروعاً وفكرة ويعتقل ويسجن، وحينما يتكلم ينظر للمستقبل وينسى ما جرى له. وكنت ذات مرة قريباً منه في ليلة صعبة على ذاكرتي كان “الصادق المهدي” عائداً للتو من منفاه والجموع الغاضبة والفرحة تمور في أمسية أنصارية هي أقرب للثأر من العفو، فجاء “الترابي” بصحبة “علي الحاج” لتلوين ذلك المساء النادر، وبعد نهاية الليلة تحرشت مجموعة حوله للاعتداء عليه وتكاثرت حوله والليل بهيم والتدافع كثيف وبعض الأنصار بطريقة كرري يريدون إهانة “الترابي”، وشاركت في تأمين الشيخ واندفعنا مع خطورة الموقف في موج بشري، بينما أحدهم ينجح في خنق “الترابي” بعمامته و”علي الحاج” يجري به مع آخرين ليجدوا (بوكس) الرغيف ويحشر فيه حشراً ويختفي.
نعم هي ليلة صعبة على ذاكرتي وتابعت بعدها الدكتور الراحل في ندوات ومؤتمرات، فلم يتعرض لهذه الحادثة ولو عبوراً عفوياً فأدهشني التسامي والمصابرة.