نزلت مني دمعة
* سودانية المشهد.. بساطة الجلسة.. عفوية التفاعل.. الضحكات التي تحقن الأجواء بصفاء مفقود.. وروح الإبداع المتدفقة بلا تكلف وتقعر تشدك برفق لحظة الضغط على زر تشغيل (الفيديو كليب) بعد تحميله مباشرة عندما يتسلل لهاتفك غازياً مترنماً عبر رسالة من صديق أو من خلال إحدى مجموعات (الواتساب).. يصافحك وجه المخرج الشاب زرياب دهب وأنامله تلعب على آلة الجيتار فتتبين الأذن المرهفة الأغنية القديمة (السجينة) قبل أن يصدح الشاب الأسمر أحمد اللورد شادياً: “يا زهرة أحلامي.. بنظم فيك كلامي.. يا روحي والهامي مع القمري البقوقي برسل ليك سلامي”؛ ليردد أفراد الأسرة المتحلقون في جلسة خضراء يتوسطها (ليدو) بمختلف أعمارهم وبصوت محبة واحد: “سميري الفي ضميري”، تلك الأغنية الترنيمة التي خطها يراع أحمد محمد الشيخ (الجاغريو) وتغنى بها عميد الفن السوداني أحمد المصطفى ضمن مجموعة من روائعه الخفيف منها والمحتشد بالنغم؛ والتي حكم عليها ابنه عز الدين بأن تظل (ممنوعة من التداول) لا تمتد لها حنجرة طالما أنه هو (وريث أبيه)؛ فإما أن يسمعها الناس بصوته أو فلتبق حبيسة الأدراج..!
* كليب (سميري) الذي أخرجه زرياب دهب وتغنى فيه المظلوم حقاً أحمد بركات – المتخصص في أغنيات العميد – بجانب الشاب اللورد وهالة دهب صاحبة النبرة الخاصة؛ وشاركهم فيه بالعزف الكمانست المميز عثمان محيي الدين يعتبر تجربة بصرية ساحرة؛ ورؤية فنية تستحق الوقوف عندها.. فقيمة العمل الفني تكمن في تكثيف المعاني وسلاسة الأفكار قبل حشد الآليات و(صناعة الزخم)؛ فزوايا تصوير مختلفة لكاميرا يتيمة أو كاميراتين يمكن أن تصنع مشاهد جاذبة و(كادر مجنون)؛ فليس بالبهرجة وحدها تسرق المشاهد العيون!.
* اعتمدت الفكرة كما قلت في نقاش خاطف مع الحبيب عطاف محمد مختار مدير تحرير الغراء (السوداني) على صناعة دقيقتين من الطرب الخفيف بلا تكلف؛ مرتكزة على بساطة كل التفاصيل المصاحبة؛ فكانت الأجواء قريبة للنفس؛ ولم نشعر بأننا نشاهد كليبا مصنوعا بحثوا له عن (سيناريو مكتوب) وهو مستنبط من روح ومعاني النص الغنائي؛ واختاروا له مجموعة من (الموديل) ودققوا في الوجوه حتى تُعزِز الصورة المعاني المنسابة بين ثنايا اللحن، وظلوا لوقت طويل يراجعون (الستوري بورد story board) أو لوحة القصة التي تضم حزمة من اللقطات المرسومة على الورق لتتحول إلى مشاهد ناطقة تتحدث بلغة بصرية فصيحة ومتسقة مع الفكرة العامة للكليب.. كل ما تعارف عليه المخرجون والنقاد من متطلبات؛ وما ظلوا يركزون عليه لم نلحظ أنه كان هماً للكليب الذي شاهدناه.. رأينا (رصدا مشهديا) للحظة تفاعل سيطرت على أناس سكنتهم النشوة فغنوا ورقصوا وكأنهم لم يروا الكاميرا التي تفسد على الناس العفوية عندما تفتح عدساتها لتخزين المشاهد؛ وتلك كلمة سر نجاح الكليب الأولى!
* من النقاط المهمة التي استوقفتني أن طاقم الكليب لم يشغل نفسه بتجهيز مواقع تصوير عديدة؛ ولم يبنوا ديكوراً باهظ التكاليف بلا حاجة تقتضي وجوده؛ ولم يزحموا عيوننا بالأزياء التي يتم تغييرها في (الأغاني المصورة السودانية) عشرات المرات دون تناسق؛ فالجلسة كانت على ضفاف النيل واستغلال الباخرة تم في المشاهد الأخيرة مع الاستعانة بكاميرا طائرة لتلويحة الوداع رسمت عملاً بديعاً وعكست جمال المكان المنساب بين الألحان!
* اختيار الأغنية وبساطتها وحنين الناس لروائع العميد يعتبر عنصراً مهماً في النجاح الذي تحقق؛ كما أن (كاست العمل) وضع أزمة منع تريد أغنيات أحمد المصطفى نصب عينيه فاختار بذكاء أغنية كتبها ولحنها الجاغريو حتى يهرب من المساءلة القانونية والأدبية فأحمد المصطفى هنا طبقاً لقوانين الملكية الفكرية يعتبر (صاحب حق مجاور) ولا يملك ابنه عز الدين (حق المنح والمنع) على عكس الأغنيات التي لحنها العميد ويعتبر فيها (صاحب حق أصيل) إن لم يوافق ورثته على منحك الإذن فإنك لن تسمعها ناهيك عن ترديدها..!
* أكثر ما أخذته على (الكليب) أنه لم يقدم الأغنية كاملة رغم مشاركة ثلاثة أصوات غنائية يتقدمها أحمد بركات الحافظ لأغنيات العميد عن ظهر قلب، فأغنية (سميري) تظل ناقصة (النغم والتاريخ والعذوبة والجغرافيا) عندما تتجاوز المقاطع التي ذكر فيها “الحلة الجديدة والنظرات الغالية؛ والحي الأمامي جوار الإسبتالية”..!
* العمل مختلف وباهر ويستحق منا الثناء؛ و(الاحتفاء الإسفيري) الذي وجده الكليب في التعليقات وأرقام المشاهدة يستحقه تماماً؛ مع أنني كنت أمني نفسي بسماع المقاطع المحذوفة مثل “النقرت أجراسن.. أنا قلبي ميراسن.. وحنّ الزهر باسن.. وحبيبتي في راسن.. أنظر ديك بثينة.. كمان شوف ديك محاسن” فالكليبات تقدم الأغنيات ولا تعرض عينات..!
نفس أخير
* وخلف الجاغريو نردد:
“البسماتا حالية.. مهذبة روحا عالية.. وبس نظراتا غالية.. في الحيّ الأمامي
جوار الإسبتالية”.