قبل التدخلات الأخيرة في سوق (الرغيف)، والتي كانت صاحبتها وزارة المالية سعيدة ومزهوة بها، لظنها أنها كفيلة بالقضاء على أزمة الدقيق والخبز، كان الخبز وافراً ومنساباً في الأسواق بصورة طبيعية، غير أنه بعد تلك التدخلات دخل في شح ملحوظ ظهر بوضوح في مدن وأنحاء عديدة، هذا إضافة إلى خفة وزنه ونقصان عدد الأرغفة المباعة بمبلغ واحد جنيه، وللأمانة من تلك التدخلات ما كان له أثر إيجابي وحميد، وهو ذاك الذي اختص بتحرير سلعة القمح من احتكار مطاحن الغلال لعملية استيرادها ورفع سعر الدولار لستة جنيهات بعد انخفاض أسعار القمح عالمياً، وقد قضى هذا الإجراء بأن ترفع الحكومة يدها من دعم دولار القمح، وهذا ما اعتبرناه إجراءً إيجابياً ومطلوباً، أما التدخل الآخر الذي يعتبر مربكاً وخاطئاً (خلط وعجن أمور الخبز)، كان هو التدخل الذي جرجر الحكومة من رجلها وأدخلها إلى معمعة سوق القمح والدقيق شارية وبائعة، وهو ما أدى في تقدير كثير من الخبراء والمراقبين إلى الخلخلة والربكة الحادثة الآن والتي أدت بدورها إلى الندرة والشح المعاش اليوم…
الشاهد الأبرز في خطل دخول الحكومة إلى سوق القمح والدقيق واستيرادها للدقيق في ظل قدرة المطاحن السودانية على إنتاج كمية الدقيق المطلوبة، والخطأ هنا هو أنه ما كان للحكومة أن تتدخل إلا إذا حدثت فجوة في إنتاج الدقيق وحتى تدخلها هنا في حال حدوث فجوة، ينبغي أن يكون محسوباً وموجهاً فقط لدعم الفجوة وسد النقص، والمثل السوداني الشهير يقول (أدي الخبز لخبازه ولو ياكل نصو)، فأهل الصنعة والمهنة هم الأدرى والأعرف والأكثر خبرة من الحكومة في عمليات الشراء والتسويق، ولعل ذلك هو ما قاد إلى (دقسة) الحكومة وربما تدقيسها وتوريطها في عملية استيراد نوع من الدقيق لا يصلح لإنتاج الخبز إلا إذا تم خلطه بالإنتاج المحلي، وعليه إذا حدث نقص في الإنتاج المحلي للدقيق تسبب ذلك في ندرة الخبز والعكس صحيح، هذا غير أن هذه السياسة الخاطئة التي حصرت استخدام الدقيق بنوعيه فقط لإنتاج الخبز قد أخرجت كل الصناعات الأخرى التي يشكل قوامها الدقيق من دائرة الإنتاج تماماً، وقد أدى خروج الإنتاج المحلي من المخبوزات الأخرى إلى سيطرة الأنواع المستوردة منها على الأسواق. والشاهد الأبرز الآخر في هذه السياسة أنها هي لا غيرها من يتحمل مسؤولية هذه المشاكل التي تعاني منها اليوم صناعة الخبز ولا أقل، لتصحيح هذا الوضع (المخلوط) من مراجعتها بأعجل ما تيسر.