من أروع إنجازات العقل الإسلامي مكتبته التاريخية، فقد ظهر مؤرخون أصبحوا سادة للبشرية في علوم التاريخ وأدب التدوين على غرار أبي عمرو الجاحظ والطبري وابن كثير وابن الأثير وابن خلدون والمقريزي وغيرهم ولولا هؤلاء لفقد التاريخ الإنسان فصول مهمة من سجلاته، وفي هذه المقالة المختصرة نستعرض فصلين صغيرين من كتاب عالمين كبيرين هما محمد بن عمر الواقدي والبلاذري أما الأول الواقدي المولود 130هـ ومتوفى 207هـ 747/ 823م ومولود بالمدينة المنورة أواخر أيام الدولة الأموية. وكان الواقدي يصنف في كل فنون العلم من المغازي والسير والطبقات وأخبار النبي (ص) والفقه والحديث، ومع إن الشافعي مات قبل الواقدي إلا أنه روى عنه، وفي رواية أن الإمام مالك على عظمة قدره، سأل الواقدي عن خبر المرأة التي سمَّت النبي (ص) بخيبر، فقال له، الذي عندنا أنه قتلها.
لم اقف على اهم كتب الواقدي عن فتوح مصر والسودان، مثل كتابه فتح مصر والإسكندرية، وكتاب فتوح مصر وأعمالها وكتاب فتح أفريقية أو فتوح أفريقية، ولعل طرقي تتقاطع يوما معها ولكن ظللت احتفظ بكتابه فتوح الشام، منذ أمد طويل ولم تتيسر لي فرصة التدقيق فيه، وحينما حانت الفرصة واعتدل المزاج، بدأت بالمجلد الثاني، ويقع الكتاب في قرابة الثمانمائة صفحة، وابتدأت بالقراءة في فتوح مصر – المصنفة بعنوان: فتوح البهنسا واهناس، وكلاهما من مدن مصر المعروفة، فالأولى مدينة من أعمال بني سويف في الصعيد والثانية مدينة في جنوب القاهرة، ومما لفت نظري في فتوحات هذه المناطق التي جاءت بعد فتوح الوجه البحري من مصر والتي تضم الإسكندرية ودمياط ورشيد وغيرها، أن المعارك التي دارت بين المسلمين وملوك الصعيد من الروم كانت أساس الجيش من السودان والنوبة والبجة، ولعل المقصود بالسودان من غلب عليه اللون الأسود والدم الزنجي أما النوبة فهو الشعب المعروف في جنوب مصر وشمال السودان والذي ابتنى الممالك المعروفة على طول النيل من أسوان حتى الخرطوم بطابعها الحضاري المميز- أما البجة فهو الشعب المعروف والذي يمتد عبر شرق السودان رابطا السودان وإريتريا وإثيوبيا .
بدأت فتوح في صعيد مصر في عند عمر بن الخطاب حينما عزز الجيش الذي فتح الوجه البحري بقيادة عمرو بن العاص بجيش آخر قوامه عشرة آلاف جندي فيهم خالد بن الوليد، والزبير بن العوام ومالك الأشتر والفضل بن العباس وجابر الأنصاري ويصف الواقدي المعركة الأولى بأنها كانت ضد صاحب مدينة أهناس الذي استعان بالكيلاج الذي كان يحكم إلى عدن والبحر المالح إلى بلاد البجا والنوبة وحد السودان، ووصف جند البجا الذين جاءوا للمعركة الأولى ضد المسلمين بأنهم بقيادة ملكهم ومعهم ألف وثلاثمائة فيل عليها قباب الجلد بصفايح الفولاذ، في كل قبة عشرة من السودان، طوال القامة عراة الأجساد على أوساطهم وأكتافهم جلود النمور وغيرها ومعهم الدرق والحراب والكرابيح والفنسي والمقاليع والأعمدة الحديد والطبول والقرون، وكانت عدتهم عشرين ألفا بالإضافة إلى نحو مائتي ألف فارس وخمسين ألف رجل من النوبة والبربر والبجاوة والفلاحين، وشاركت في الحرب خولة بنت الأزور، التي شق عليها أسر أخيها ضرار في معركة سابقة، ودخل المسلمون في عدة معارك وفي مناطق مختلفة ومع أنهم كانوا يسجلون انتصارات إلا أنها لم تكن كافية لكسر شوكة المقاومة المصرية التي كان جنودها ووقودها السودان والنوبة والبجا وتكررت صيحة النفير يا خيل الله اركبي وفي الجنة أرغبي والثواب أطلبي، وقد أحاطت الأفيال وتصايحت النوبة والبجاوة والروم وأدار المعركة ضدهم خالد بن الوليد ومعه أبوهريرة والفضل بن عباس وقتلوا مائة وستين فيلا واستشهد من المسلمين مائتان وأربعون رجلا.
ومن المعارك التي وصفها الواقدي ضد السودان والروم المعركة التي استعان بها عمرو بن العاص وخالد بالنساء قائلا: (إني احضكن إذا جاءت الروم والسودان فقاتلن عن أنفسكن كما قاتلتن في يوم أجنادين ويوم اليرموك – فكانت إجابة النساء لنضربن وجوه الروم والسودان حتى لا يبقى لنا عذر – قال الواقدي (وتزاحمت السودان والبربر والنوبة والجباوة، فلما تقارب الجمعان ومن أصحاب الفيل نشابهم، فكانت كالجراد المنتشر، وكان في أصحاب الفيلة من السودان والبربر وسواكن، يسمونهم القواد، شفافهم العليا مشقوقة وبها خرام من نحاس.. وما كنت ترى إلا دما فائرا وكفا طائرا وجوادا غائرا هذا وقد زحفت السودان) وقاتلت نساء العرب الأعلاج الغلف والسودان فقاتلن قتال الموت وسالت الدماء على وجوههن وهن يقلن الله الله – وطارت الجماجم وحامت طيور المنايا وعظمت الرزايا وبربرت السودان بلغاتها ورفعن الروم أصواتها – واشعل المسلمون النيران لإخافة الأفيال وقتل من السودان والروم ما لا يحصى وتم أسر خمسة آلاف منهم، بينما قتل من المسلمين خمسمائة وثلاثون رجلا، ووصل أمر المعركة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففرح بذلك فرحا شديدا – وقرأ الكتاب على علي بن أبي طالب وعثمان وابن عوف والعباس عم رسول الله- شارك النوبة والسودان والبجا في معارك الدفاع عن صعيد مصر في وجه الزحف الإسلامي وقدموا من التضحيات ما لم يقدمه المصريون من الفلاليح الذين لم تكن لهم خبرة بالقتال، لأن أمر القتال كان عند الروم القوى المستعبدة والمستعمرة لمصر، وكان أهل السودان يعرفون أن معارك صعيد مصر ستحدد وضعية ممالك النوبة والبجة، وأن ممالكهم ستؤكل يوم تؤكل ممالك صعيد مصر، وخاض أهل السودان بأفيالهم وعتادهم هذه المعارك بعيدا عن دنقلة وعن حدودهم – ومن الغريب أن المصادر سكتت عن دور النوبة والسودان والبجاوة في مناطق الصعيد (بهنسا وما وراءه) مناطق المنيا حتى أسوان الحالية – وربما رجع النوبة إلى بلادهم بعد التضحيات الكبيرة التي قدموها، خصوصا أن نصارى الفلاحين لم يشاركوا في هذه الحروب، ووقع العبء على أهل السودان من النوبة والبجاوة واستقر الأمر للمسلمين في مصر، وبعد ذلك فكروا في فتح بلاد النوبة، ووقع ذلك بعد ثماني سنوات من استكمال فتح صعيد مصر وفي الحلقة القادمة نستعرض حروب النوبة مع المسلمين هذه المرة دفاعا عن دولتهم وعاصمتهم تلك الحروب التي انتهت بعهد البقط بين عبدالله بن أبي السرح وقليدورس ملك النوبة.