“الآن هنالك متواليتان تحكمان علاقة هذا الشعب بهذه الحكومة: متوالية هندسية تربط الاحتجاجات المتفاقمة بالإنكار الدائم، وأخرى عددية تربط المصائب التنفيذية بفجور التصريحات.. وهذه هي أول وأولى أسباب فقدان الثقة في نزاهة الجالسين، وفي جدوى الكراسي” .. الكاتبة..!
ليس أنكى من جنون العظمة وهذيان الطموح، عندما يصيبان شخصاً وجد نفسه في موقع سلطة، ثم أدرك أن سلوكه المهني – وإن تطاول – سوف يبقى بمعزل عن مساءلة القانون.. هذا النوع من الجنون هو الذي صوّر للرئيس الأمريكي الأسبق “نيكسون” أنه قادر على دحر خصومه السياسيين بخرق القانون واستغلال السلطة فتجسس عليهم، ولولا هذا الجنون الذي أصاب نيكسون، لما كانت فضيحة ووترجيت، ولولا وقوف القانون فوق رأس الحصانة لما تمت محاكمته..!
“إذا لم يكن هؤلاء الصحفيون مكانهم السجون فأين سيكون مكانهم، أنا سأسجن أي أحد حتى لو كان النبي عليه الصلاة والسلام، استغفر الله العظيم، سأسجن المخطئ أيّاً كانت صفته” .. هكذا تكلم السيد “أحمد الزند” وزير العدل المصري، الذي نظر، وعبس، وبسر، ثم أدبر واستكبر .. فثارت ثائرة الصحافة المصرية، وتم تقديم دعوى قضائية لعزله من منصبه..!
رحم الله الوزير المصري الأسبق الذي نصح الرئيس حسني مبارك، في مطلع الثورة، بأن يأمر خمسة عشر وزيراً بإخلاء مقاعدهم «يلبسوا الجلاليب ويقعدوا في البيت، ونحل المشكلة!».. لكن المشكلة أصبح ببركة الإنكار السياسي، مضغة ثورية غير قابلة للإجهاض .. ثم هاهو تاريخ الاستوزار في مصر “ما قبل الثورة” يعيد نفسه بتَصرُّف ..!
السودان – شأنه شأن مصر – له من جنون العظمة و”مِحَنْ” الاستوزار نصيب.. في ذات التوقيت اتهم السيد وزير الصحة بولاية الخرطوم “مأمون حميدة”، كتاب الأعمدة بأنهم جهلة وكاذبون، وقال إن ما يكتبونه يؤدي إلى فقدان الثقة في النظام الصحي ..!
الإنكار – كما تعلم – مصطلح شهير في علم النفس، وهو يعني ببساطة أن تهرب من وقوع المصيبة بإنكارها، فتغضب .. ثم تفاوض .. ثم تكتئب .. ثم تتقبل الواقع وينتهي الأمر .. وعليه، يبدو أن هجوم الأطباء على سياسات السيد الوزير واستياءهم البالغ من نقص المعينات ورداءة بيئة العمل قد أودت به إلى حالة إنكار، فطفق يبحث عن مشجب يعلق عليه أثواب العجز وفقدان الثقة.. وسبحان الذي هيأ له أن يفتي في “مهنية الصحفيين ونزاهة الكتاب” ثم ينكر عليهم- في ذات الوقت – أن يقدحوا في بعض تدابير وزارته، أو “مهنية” بعض المنتمين إلى حقله الطبي..!
عندما أنكر “جورج بوش” الابن حقيقة تورطه في حرب العراق، خرج “بوب ودورد” الصحفي الجسور الذي فجر فضيحة “وترجيت” أيام الرئيس “نيكسون”، ليحدث الناس – في كتاب جرئ – عن ذلك الخط المتوازي – الطريف – الذي يربط بين تصرفات “بوش” الابن منذ إعلان الحرب على العراق، وسلوك الرئيس الأسبق “ريتشارد نيكسون” قبل افتضاح أمره.. فضلاً عن سلوك مستشاره “كسينجر” الذي كان وزيراًللخارجية أيام “وترجيت” ومستشاراً للرئيس أيام حرب العراق.. وكأن مؤلف الكتاب – هو الآخر – يدعو “كسينجر” إلى لبس”البجامة” والقعود في البيت..!
حسناً!.. إن كان السيد وزير الصحة بولاية الخرطوم لا يحتمل أول وأولى تبعات منصبه العام «هجوم الكتاب في حال الخطأ أو التقصير وسعيهم الحثيث إلى تقصِّي الحقائق» ليس شرطاً أن يلبس “الجلابية” وأن يقعد في البيت.. فليحتفظ بربطات عنقه، ولينصرف إلى تطوير استثماراته الطبية،التي يبدو أن العلاقة بين نجاحها وفشل المستشفيات الحكومية سوف تبقى عكسية..!