كتبت الجزء الأكبر من هذا المقال قبل وفاة الشيخ الجليل دكتور حسن الترابي- عليه رحمة الله- ورأيت تأجيله لأسبوع محتجباً الأحد الماضي، لأنني أعتبر وفاة شيخ حسن تضيف الى الحقائق العشر التي أعددتها في المقال المؤجل والتي سوف أذكرها بعد هذه المقدمة المهمة.. الواقع الآن يحتم علينا إدراك أن قطبي مسيرة الحكم في السودان هما كانا د. حسن الترابي كمرجعية تاريخية معاصرة للحركة الإسلامية في السودان- بغض النظر عن تواجد عضويتها في المؤتمر الوطني، والمؤتمر الشعبي، والاصلاح الآن، والسائحون أو الآخرين الذين قل حماسهم في المؤتمر الوطني- والقطب الثاني هو الرئيس البشير وهو الآن القطب السياسي والسيادي الذي تلتقي فيه كل التيارات المحركة لدولاب الحكم- إسلامية ّأو غير إسلامية، وأمنية أو تنفيذية.. شخصية الشيخ حسن الكاريزمية والقيادية وفكره الثاقب وذكائه الحاد يجعل فقده خصماً على القطب الإسلامي داخلياً وخارجياً..
داخلياً أنه قد يبدو من الوهلة الأولى أن وفاة شيخ حسن المفاجئة والحزن الذي خيّم على عضوية الحركة الإسلامية في كل تنظيماتها الحزبية وغير الحزبية، والجموع التي تقاطرت بشكل غير مسبوق في تشييعه ثم كلماته الأخيرة عن الوفاء بالعهود، ورغبته في الاطمئنان على السودان قبل أن يمضي، ودعوته لجمع الصف الوطني وليس الإسلامي فقط ستكون دافعاً قوياً لتوحيد فصائل الحركة الإسلامية، ولكن انتفاضة المؤتمر الوطني الأخيرة وإعادة حيويته بطاقم قيادي يغلب عليه عنصر الشباب طاقم متجانس ومتناغم مع قيادة الرئيس البشير في وجه جديد وجريء للإنقاذ، يسعى الى مصالحة الجماهير والمجتمع الاقليمي والدولي عبر الانحياز الى الحلف العربي والابتعاد عن الحلف الايراني، هذا سيقلل كثيراً من قوة الدفع العاطفي لتوحيد الحركة الإسلامية، إذ أن التوحيد يعني عودة قيادات تاريخية لا يتفق الكثيرون على قيادة أي منهم مثل د. علي الحاج، ود. نافع، والأستاذ علي عثمان، ود. غازي كمرجعية ‘سلامية فكرية وسياسية ثاقبة الرأي والرؤى مجددة ومتجددة، مثلما توفرت لدى الراحل الشيخ الترابي خاصة في أيامه الأخيرة، عندما كان يدعو بإصرار شديد الى وحدة الصف الوطني الشامل لمقابلة المخاطر التي كان يراها بفكره الثاقب قريبة الحدوث، مما حدا به للانخراط في الحوار الوطني بقناعات راسخة.. على الصعيد الخارجي سيفقد السودان بعداً مهماً وتقديراً ودعماً من الحركة الإسلامية العالمية التي تثمن وتقدر شيخ حسن فقط كمرجعية إسلامية عالمية.
نعود الى المقال الأصل ونورد الحقائق العشر الآتية:
أولاً: توجد الآن في السودان سلطة قوية لم تؤثر فيها انشقاقات الحركة الإسلامية وتوزعها بين المؤتمر الشعبي، والاصلاح الآن، و(السائحون)، والغاضبين والمتفلتين في المؤتمر الوطني، عكس ما تتخيل المعارضة هذا الانقسام زاد السلطة قوة بإزالة مراكز قوة تاريخية، كانت تؤثر في شكل وسرعة اتخاط القرارات، والتي كانت تخرج في ظل مراكز القوة تلك خاطئة في كثير من الأحيان، ويمتد أثرها المدمر لسنوات مثلما حدث في وقوف السودان عام 1990 عندما غزا نظام صدام الكويت ضد موقف غالبية الدول العربية خاصة دول الخليج.
الشاهد على قوة السلطة وتجانسها اتخاذ الرئيس لقرارات جريئة سليمة وفي أقصر وقت متمثلة في دعوته للحوار الوطني، وتكرار وتأكيد التزامه بمخرجاته مهما كانت، ثم القرار السريع بالمشاركة في حلف عاصفة الحزم في اليمن، وقطع العلاقات مع ايران، وأخيراً الانضمام الى مناورات الحلف العربي الإسلامي- رعد الشمال- تمهيداً لحسم الأزمة السورية.
ثانياً: الجيش وقوات الدعم السريع تسيطر على مسارح العمليات في دارفور والمنطقتين، الشاهد انتصارات القوات المسلحة على حركة العدل والمساواة في معركة قوز دنقو وانتصارها الأخير على قوات عبد الواحد في جبل مرة، إضافة الى توقف تهديد حركة مناوي وقوات قطاع الشمال في المنطقتين.
ثالثاً: جهاز الأمن والمخابرات سيطر على الساحة وتمدد نشاطه ليشمل الدخول في عمليات عسكرية، الشواهد انحسار التفلتات الأمنية المنظمة والتظاهرات الشعبية، حتى بعد الزيادات الكبيرة في أسعار السلع والخدمات مثل الغاز والماء والاتصالات والمواصلات.
رابعاً: قوات الشرطة تعمل- وهي في إعداد بشري وتقني ولوجستي كامل- تعمل بكفاءة عالية وتغطي كل المناطق خاصة ليلاً في وجود مكثف ومراقبة وتفتيش مستمر.. الشاهد استتباب الأمن وبسط هيبة الدولة المتمثل في المداهمات الاستباقية لأوكار الجريمة الجنائية والمجتمعية، إضافة الى نجاحها في كشف كل جرائم القتل الغامضة في زمن قياسي.
خامساً: قدرة الحكومة على حشد الجماهير واقناع الكثيرين بالانضمام الى الحوار الوطني والمجتمعي.. الشاهد الحشد غير المسبوق في ساحة الشهداء يوم الاثنين الثامن من فبراير الماضي لتسليم الرئيس مخرجات الحوار المجتمعي في ولاية الخرطوم، ثم النجاح في تسجيل ثلاثة ملايين ونصف ناخب في استفتاء دارفور بالرغم من التفلتات الأمنية فيها.
سادساً: ارتفاع أسعار السلع والخدمات بمعدلات فوق طاقة الغالبية العظمى من المواطنين.. الشاهد التذمر المتعاظم في كل التجمعات في أماكن العمل، والمناسبات الاجتماعية، والمنتديات في المقاهي والمطاعم وأمام المنازل كل مساء.. والشاهد الآخر نتيجة لهذا الضيق في المعيشة تنامي التفكك الأسري، وتناقص رقابة أولياء الأمور على أبنائهم من الجنسين، مما أدى الى انتشار العادات الضارة والممارسات الخاطئة بينهم، وخير شاهد ودليل دفاتر الشرطة اليومية.
سابعاً: اتساع الفجوة بين طبقتين بعد أن زالت الطبقة الوسطى- طبقة تملك كل شيء وأخرى لا تملك أي شيء، وتنامي الأخبار عن فساد عظيم وغسيل أموال واقتصاد خفي خارج النظام المصرفي.. والشواهد تكدس العربات في الطرق، والتطاول في البنيان، وتكاثر مراكز التسوق المملوءة بالسلع المستوردة والفاخرة، ورفاهية وثراء فاحش ظهر على أفراد فجأة، بعد أن كانوا في ضيق الى وقت قريب- الطبقة الأخرى تتدافع يومياً في معاناة وراء المواصلات، وتفشل في مواصلة أبنائها في التعليم الخاص بعد تدني التعليم الحكومي، وأيضاً تفشل في تلقي العلاج لأسرها في المستشفيات الخاصة، بعد تدني خدمات المستشفيات الحكومية وانعدام الأدوية فيها.. والشاهد الأخير تزايد هجرة أبناء الأسر بصورة غير عادية هذه الأيام.
ثامناً: مخاطر الانهيار الاقتصادي محدقة بعد أن فقدت الحكومة كل مصادرها من العملة الأجنبية، بفقدان صادرات البترول، والذهب، والزراعة، والصمغ العربي، إضافة الى اعتماد الدولة في إيرادات العملة المحلية على زيادة رسوم المعاملات الحكومية بصورة كبيرة.. الشاهد تزايد سعر الدولار مقابل الجنيه بصورة مخيفة، حتى وصل الى ضعف ما كان عليه قبل أقل من سنة.. والشاهد الآخر انحسار نشاط البنوك الخاصة الأجنبية في التمويل طويل الأمد، وتقليص نشاط بعضها والتفكير الجاد في مغادرة السودان.
تاسعاً: مخاطر التدخل الخارجي الأممي والاقليمي- الشاهد اضطراد تقارير الأمم المتحدة السالبة عن تزايد أعداد ومعاناة النازحين في دارفور، وصدور قرارات من مجلس الأمن في وتائر متقاربة تعيد التجديد والتأكيد على كل قراراته السابقة منذ العام 2005.
عاشراً: فتور العلاقات والتعاون مع الاتحاد الأفريقي وهشاشة العلاقات مع دولتي الجوار مصر وليبيا، والتناغم الحذر معهما.. الشاهد اتهامات مصرية مبطنة على الصعيد الرسمي وظاهرة على صعيد الإعلام المصري الموجه، ومضايقة السودانيين الأخيرة في القاهرة، ثم القتل المستمر لسودانيين في سيناء ما هو إلا دليل على التوتر الحذر في العلاقات– اللواء حفتر يكيل الاتهامات المباشرة على السودان بدعم المعارضة الإسلامية في ليبيا.
ختاماً: من السرد الماضي في تحديد نقاط القوة والضعف لكل فريق، نخلص الى مخرجين فقط:
الأول: على الحكومة اعتماد نقاط القوة الخمس الأولى وسيلة عملية لمصالحة المواطنين، وذلك بالمضئ قدماً في التحالف مع دول الخليج، حتى تتوفر السلع والخدمات بأسعار في مقدورهم، وأن تعتمد الحوار الوطني الحالي كتمرين ناجح أخير قبل مباراة حاسمة مع فريق المعارضة، تجري بمبدّأ اللعب النظيف، وتثق وتتعاون مع التحكيم المحايد من الاتحاد الأفريقي، وتؤدي المباراة بمهارة ومرونة عالية حتى تكتمل مخرجات الحوار الوطني ويعم السلام.. التحالف التام المستدام مع دول الخليج وتطبيع العلاقات مع أمريكا، وإعادة الوحدة مع دولة الجنوب يمنع ولوج أهداف في مرمى الحكومة مثل أهداف الثورة الجماهيرية، والتدخل الأجنبي، والانهيار الاقتصادي.
الثاني: على المعارضة أن تدرك أن إزالة النظام بالقوة دون حدوث فوضى ودمار أمر مستحيل، وحينها لن تجد المعارضة أرضاً أو شعباً لتحكمه، وأن تعلم أن الخلافات والانشقاقات داخل المؤتمر الوطني مرتبطة بحد أدنى متى ما أوصلتهم المعارضة إليه ستعود وحدتهم أكثر قوة، وعلى قطاع الشمال وحركات دارفور المسلحة التوافق مع الحكومة في حوار خارجي وداخلي وفق بنود الاتفاقية الاطارية واتفاقات الدوحة، واللتين يمكن تعديلهما بما يرضي كل الأطراف، وتكملة الحوار الوطني الحالي في جلسات أولية خارج السودان، وختامية داخل السودان.
نقول هذا وفي اعتقادنا أن السودان وصل (الميس).
عمر البكري أبو حراز
اخر لحظة