يُنسب إلى الأديب السوداني الراحل الطيب صالح أنّه وصف حسن الترابي حينما خرج من سجن النظام الحاكم عام 2005 (تكرّر اعتقاله مرّات عديدة) بأنّه محظوظ، وأنّ الحياة تعطيه فرصة أخرى، والحياة عادة ليست سخية في إعطاء الفرص. وترك صالح سؤالاً: أسبغ الله على الترابي نعماً كثيرة، أعطاه الذكاء والبيان والفصاحة، ويسّر له تحصيل العلوم الدينية والدنيوية، وجعله للناس حجة وإماماً. ولكن، هل أحسن استغلال هذه الهبات الإلهية؟ ما زال السؤال معلقّاً، مثل سؤالٍ سابق للطيب صالح نفسه في عنوان مقال له: “من أين أتى هؤلاء؟”.
هزّت وفاة الترابي الذاكرة الشعبية السودانية، وجعلت الصفوف تتمايز من جديد، حواريوه المكلومون، في مواجهة مبغضيه الذين يحمّلونه كل ما حاق بالسودان من دمارٍ وتقسيمٍ وخراب. وبين هؤلاء وأولئك، لا يجد الرئيس عمر البشير، وأعوانه تلامذة الترابي القدامى، شبراً تطفو عليه أي مشاعر من أيّ نوع. بُهت الرئيس برحيل عرّاب نظامه، ومن حمله على ظهر دبابة، وأوصله إلى كرسي الحكم. حيارى تلامذته القدامى الذين خذلوه، وباعوا شعار الجبهة الإسلامية الذي تعالى مع عودة بعض القيادات من الخارج لأداء واجب العزاء، وبعد أن كان “هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه”، أصبح عند أهل النظام هي للسلطة بفقه التمكين، وهي للجاه بفقه التحلّل من كل مواقع الفساد المثبتة بالأدلة.
لفهم شخصية مركبة ومكتنزة بالألغاز، مثل شخصية حسن الترابي، نحتاج إلى قول الفيلسوف الفرنسي، جيل دولوز، إنّه يلزمنا الاعتراف أخلاقياً، أحياناً، بتعليق الحكم، لكي نفهم الآخر، فيجب ألّا نعتمد على أحكام الإدانة أو البراءة، لكي نوجز حياة الآخر، في خلطٍ للموقف الأخلاقي مع الذي يُصدر الحكم. وللإنصاف، لا يمكن حصر فكر الترابي في هذه المساحة. كان يرتكز على “التوحيد في كل شيء والحرية في كل شيء”، داعياً إلى فهم الدين بطريقةٍ لا تصوّر الإسلام غريباً أو مهيباً، معالجاً قضية شمول الدين أوجه الحياة من فن وجمال وعلم وسياسة، وهي ما جعلت كتبه ذات طابع تجديدي تأسيسي في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر. أما صلابته، فاختبرت في موضعين لنظامين شرسين. الأول أنّه لم يلن عندما انقلب عليه نظام الديكتاتور جعفر النميري، بعدما فرضا قوانين الشريعة الإسلامية المتعارف عليها بقوانين سبتمبر/ أيلول في 1983. اعتقله النميري مع قادة الحركة الإسلامية في 1985، بتهمة التآمر، ثم سقط النظام بعد اعتقاله بشهر في انتفاضة 6 أبريل/ نيسان. خرج وقادة الحركة بعفو من رئيس المجلس العسكري المؤقت، المشير عبد الرحمن سوار الذهب، وأسس الجبهة القومية الإسلامية، ثم خاض بها انتخابات 1986 البرلمانية. حصد مقاعد 52 نائباً بفارق مقعدين عن الحزب الاتحادي الديمقراطي، ثاني أكبر الأحزاب السياسية السودانية مع حزب الأمة. بعد ذلك، انقلب على التجربة الديمقراطية الثالثة، وعلى حكومة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة وشقيق زوجته وصال المهدي، ليأتي بحكم “نظام الإنقاذ”. وكان الموضع الثاني حينما انقلبت عليه هذا النظام، بعد اختلافه معها حول قضايا الشورى والحريات والفساد، والتي انتهت بحل البرلمان عام 1999. وجرّدته من منصب الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني، وحلت البرلمان الذي يرأسه، ليتوالى التصعيد بينه وبين الحزب، وينشئ، فيما بعد، حزب المؤتمر الشعبي.
صرعته الحكومات المختلفة وصرعها، وفي مأتمه، يروي شهود في العزاء أنّ قيادات الأحزاب
“يروي شهود في العزاء أنّ قيادات الأحزاب المعارضة غاصت في حزن نبيل على الرغم من الخلاف” المعارضة غاصت في حزن نبيل على الرغم من الخلاف، وأنّ بعض تلامذة الشيخ القدامى من أهل السلطة كانوا مطأطئي رؤوسهم في خجل. والحقيقة أنّ الفريقين كانا يتوقعان دوراً إضافياً للترابي، لحذاقته في الأدوار التي كان يشغلها، وربطه بينهما. وهذه هي المشاعر نفسها التي ظلت تخالج دواخل عامة السودانيين، بأنّه، وإنْ لم يُكتب في صفة الخلود كبشر، فإنّه ارتبط بنظام حكم، ظلّ فاعلاً فيه، ومشاكساً يصعب أن يتركه ويرحل. وما عزّز هذه المشاعر كفاحه، حتى آخر لحظة من حياته، في سبيل تغيير، أو إن شئت تصحيح، ما قام به من خطأ فادح في حقّ السودان، وطناً ومواطنين، وذلك بدوره في الحوار الوطني، والتقريب بين وجهتي نظر الحكومة والمعارضة التي هو وحزبه جزءٌ منها.
لم تشفع للترابي الخطوات الترجيحية التي قام بها، أخيراً، ربما لأنّ غبن الشعب السوداني مربوط ببقاء النظام نفسه، ولو نجحت محاولات التغيير بالثورات الشعبية الموءودة، لتغيرت النظرة الشامتة إلى وفاة الترابي، ولتفرّغت الشحنات في النظام الجديد، أيّاً كان شكله، فهذه الشحنات السالبة التي امتلأت بها الأسافير، غريبةٌ نوعاً ما عن أخلاق المجتمع السوداني الذي يحترم الموت حالة إنسانية تذخر بالطقوس الخاصة التي تُقام للمتوفى، أيّاً كانت مرتبته. والأغرب هو وقفة الضدين من دون أن تكون هناك منطقة وسطى بين الحزن حدّ الجزع والشماتة وحدّ الضحك الهستيري. والتفسير أنّ الفشل في تغيير النظام جعل هذه الجموع المتطرفة في بغضها توجّه سخطها إلى روح الترابي، بعد أن صعدت إلى بارئها، بدلاً من أن توجهه إلى نفسها، وكأنّما تراه أفلتَ من بين يديها من دون حساب، أو سجّل انتصاراً آخر بهذا الموت الضاجّ.