مئات الخلفاء للترابي

بفضل يقظتهم المفرطة وحساسيتهم العالية والتقاطهم الذكي للتفاصيل الصغيرة وقدرتهم على تحليلها واستشراف ما سيؤول إليه الحاضر، نجد أن الفنانين من هم أول يستشعرون التغييرات الآخذة في الحدوث من خضم لحظة صغيرة. وهكذا وبعد الحرب العالمية الأولى، عندما وجد بعض هؤلاء من العائدين من الخنادق أن الواقع الذي تركوه خلفهم قد انسمخ مذاقة وفقد قوامه، صاروا محل ريبة شديدة إزاءه، فكانت السوريالية، وفي ذلك الأوان كان في الجهة الأخرى من الأطلسي الطبيب والشاعر الشاب (كارلوس وليامز)، وبسبب (تفصيلة) شخصيِّة متناهية الصِغر، يكتب عن أن السبب الذي لا يزال يجعلنا في حاجة إلى فكرة الثقافة هو أخلاقي أو سياسي.
وفي الصدد هذا، قدّم كثيرون مقاربات تأويلية مصقولة و(محبوكة) بدقة للفكر والحياة والاقتصاد والفن، فيما ظل يمتح منها السياسيون ويمجون بأنفاسٍ (قصيرة) تتواءم مع خططهم في الوصول إلى السلطة (الحكم)، فيُجيرون متناثرات منها لمصلحة خطاباتهم وخطبهم وبرامجهم السياسية – إن وجدت – ولربما لهذا السبب بالذات يظل الهم الأول والأخير للسياسي هو الجلوس على الكرسي لأطول فترة مُمكنة مثل زهرة الحائط.
والحال، أن كاتِبًا صحفيًا فذًّا وناقِدًا (فنانًا) مثل محمد جميل أحمد، ومن خلال رصده لتفاصيل الخطابات التأبينية التي أعقبت رحيل الدكتور حسن الترابي، لاحظ أمورا كانت لولا يقظته وحساسيته والتقاطه الذكي مضت دون أن ينتبه لها أحد، إذ كتب أمس على صفحته في فيس بوك: “من يتابع كلمات التأبين التي تبثها قناة حسين خوجلي الفضائية (أم درمان) عن الدكتور الترابي ويستمع إلى كلمات المؤبنين من بعض رموز ونشطاء الحركة الإسلامية جميعهم (شعبي ووطني) يمكنه أن يخرج بانطباع؛ أن صورة الترابي، التي ظل يرسمها له أتباعه المبهورون بـ(بلاغته النسقية) ﻻ تزال مهيمنة على المخيال الجمعي الشعبوي لما قبل العام 1989 بين قواعد الحركة الإسلامية عن الرجل. وكأن ما حدث من زلزال في بنية الإسلام السياسي وهويته في السودان منذ ربع قرن لم يكن شيئا؟!، نأمل أن تكون تلك المواقف مواقف لحظية تغلب عليها العاطفة، وأن تكون تجربة الرجل مُحفزة للدرس والنقد والمساءلة من كافة أبناء الشعب السوداني، نظرا لعموم البلوى في تجربة الترابي السياسية والفكرِّية واتصالها بالفضاء العام الذي أصبح عليه السودان اليوم، المصيبة والكارثة أن تكون تلك المواقف هي الوجه اﻵخر لمأزق الحركة الإسلامية وعجز رموزها عن خلافة الرجل؛ كما لمّح إلى ذلك مصطفى عثمان إسماعيل” .
بطبيعة الحال، جعلتني ملاحظات جميل الدقيقة أجنح إلى استعادة تلك التفصيلة التي وردت في الخطبة التأبينية لمصطفى إسماعيل، وكنت استمعت إلى ختامها الذي ورد فيه ما معناه “أن لا أحد (فرد) يستطيع أن يخلف الترابي، باعتبار أن الفراغ الذي تركه في الحركة الإسلامية فوق قدرات وإمكانيات (شخص واحد)، لذلك يتطلب سده، أشخاصا كثرا، ليصبح أحدهم خليفة الترابي في ما يتعلق برؤيته إزاء حقوق النساء، وثانيا خليفته لأمور السياسة، وثالثا للفكر، ورابعا للثقافة وخامسا للاقتصاد، وسادسا للحوار، وسابعا للعلاقات الخارجية وثامنا للفقه والتحديث….. إلى ما لا نهاية من الخلفاء، خليفة للرجل في كل تفصيلة صغيرة”، هذا ما قاله دكتور مصطفى، وإن لم يكن حرفيًا وبهذا الاستطراد بالغ التفاصيل.
إلى ذلك، يبدو أن أتباع الراحل الترابي – كما قال جميل – لا يزالون مبهورين بـ(بلاغته النسقيِّة)، وليس لديهم ما يكفي من الإرادة والعزم على ممارسة نوع من النقد والتقويم لتلك التجربة التي يشعرون بضعف شديد تجاهها حتى أنهم ربما يحتاجون لمئات الأشخاص كي يسدوا الفراغ الذي تركه رحيله، بحسب ما ألمح إسماعيل.

Exit mobile version