يعتقد العاملون في أجهزة الخدمة العامة في الوطن العربي أن الله سخر لهم التكنولوجيا لبهدلة العباد. ولا يمكن أن يقضي أحدهم لك حاجة من أول زيارة، فأنت مطالب بإبراز مستندات «مصورة» وأصلية، حتى لو لجأت إليهم طالباً تزويدك بمثل تلك المستندات. وسر التعقيدات الإدارية في أجهزة الخدمة العامة العربية هو الولع العربي بالتوقيعات أو الإمضاءات، إذ لا يعتبر العربي وظيفته محترمة ما لم تخوله التوقيع على بعض الأوراق، ومن ثم فإنّ العرب هم أفضل أهل الأرض توقيعاً، ويتفنن الواحد منهم في رسم الخطوط الأفقية والحلزونية منتشياً وكأنه يوقع أمرًا بالهجوم النووي على إسرائيل. ولكن الغريب في الأمر أن المسؤول العربي رغم ولعه الشديد بالتوقيع ضنين به ولا يتكرم برسم توقيعه على أي مستند ما لم يتخمر المستند على طاولته حتى تشرف صلاحيته على الانتهاء.
عندما ذهبت مع عائلتي إلى بريطانيا كخبير أجنبي لجأت إلى أحد جيراني العرب كي يعينني على تسجيل عيالي في المدارس، فبادر بالاتصال بمكتب تعليم المنطقة، ثم ناولني الهاتف وتحدثت مع سيدة سألتني عن مكان سكني، ثم طلبت مني الانتظار على الخط قليلاً وعادت لتخبرني أن أذهب بالبنت الصغرى إلى مدرسة قريبة من البيت وأن اصطحب الولد والبت الأكبر سنًّا إلى مدرسة ثانوية في شمال لندن فقلت لها: ماذا يا قليلة الحياء؟ تريدين أن ترسلي ابنتي إلى مدرسة فيها ذكور فحول في بلد يدرسون فيه الجنس في رياض الأطفال؟ تطلبين هذا من عربيقي ينتمي إلى طالبان السودان؟ ارتعدت المسكينة خوفاً ثم غابت عني قليلاً وأبلغتني بتسجيل ابنتي في مدرسة بنات (حاف) توجهت على الفور إلى المدرسة التي خصصوها للبنت الصغرى، متسلحا بالشهادات الموثقة التي تثبت أنها ابنتي وأنني زوج أمها وأنها كانت تدرس في مدرسة نظامية وليس مدرسة المشاة وشهادة الميلاد وجواز السفر الذي يثبت أنني مقيم في بريطانيا شرعًا ووثيقة تثبت أنني وأفراد عائلتي خالون من الأمراض (هذه كانت مزورة)، وقابلت مدير المدرسة وقدمت له باقة من الأوراق الموثقة فألقى عليها نظرة ثم سألني: ما أفعل بهذه الأوراق؟ باختصار قال لي صاحبنا إن من حق أي طفل في بريطانيا أن يتلقى تعليمه حتى لو كان أهله مهاجرين غير قانونيين.
ومنذ يومها وأنا اكبر أنصار العوخصة التي هي مزيج من الخصخصة والعولمة وتعني فتح المجال أمام الشركات والمؤسسات العالمية أي الغربية لخصخصة وزارات الخدمات مثل التربية والصحة، وتخيل أن تكون في المستشفى وتأتيك ممرضة سويدية لقياس قوة إبصارك: تصبح زرقاء يمامة خلال ثوان معدودة! تضرب زوجتك فتعتقلك وتستجوبك شرطية فرنسية وكلمة من هنا وأخرى من هناك وتطلب يدها على سنة الله ورسوله فتضطر زوجتك القديمة البالية إلى شطب الدعوى ولكن هيهات! لا حاجة بك إلى مسيار لتلويث النسل في بلاد الله الواسعة.
وقد ارتفعت معنوياتي مؤخرًا بعد أن تناقلت وسائل الإعلام أن بعض الجميلات الغربيات يعرضن بويضاتهن للبيع للراغبين في تحسين النسل. تخيل أن تكون لك بنت أمها الطبيعية أنجلينا جولي أو جنيفر لوبيز: كاكاو بالحليب أو كابتشينو بالزبادي. كم أود رصد رد فعل بنتي مروة عندما تكون لها مثل تلك الأخت من الأب نفسه الذي تعايره بلون بشرته وحجم أنفه وقلة ماله. وبمثل تلك البنت لن أكون بحاجة إلى الزواج بنبيلة عبيد كي أرفع من أسهمي الاجتماعية والطبقية. قلة وفاء؟ فليكن: أريد أن «أفتك» من عالم لا يرى في الإنترنت سوى أنه بؤرة فساد مع أن الذي يشده إلى الغرب هو «الفساد». ومن يدري فقد يجعلني الانتماء إلى الغرب في مرتبة أحمد زويل أو حتى الشاب خالد (إلى متى سيبقى شابًا؟) بالمناسبة لدي معلومات بأن زويل هذا سوداني لأن اسم عائلته تصغير «زول».