استفاد الدكتور حسن الترابى «فبراير1932 – مارس2016» من قراءة كتاب الأمير لمكيافيللي استفادة مؤكدة، تنسجم تماما مع تكوينه النفسى والثقافى والسياسى، وربما حفظه عن ظهر قلب، ونفذ نصائحه على امتداد نحو 52 عاما،منذ ظهوره على ساحة المشهد العام فى السودان عام 1964، بعد أن اقتطع –كما هى عادته – بعض نصائح المؤلف للأمير من سياقها، و أساء فهم أهدافها ،ومبررات الكتيب الذى تم نشره بعد موت مؤلفه فى القرن السادس عشر،والظروف التى أملت عليه تأليفه. و«الأمير» كما هو معروف، كتبه مؤلفه فى منفاه، بعد أن مارس السياسة على مدار 13 عاما، وفيه يسدى للحاكم نصائح يعتقد أنه يمكن بموجبها أن تتوحد إيطاليا المفككة لتغدو دولة قومية موحدة وقوية، حتى لو اتسمت الوسائل صوب تحقيق ذلك بالعنف والقسوة والخداع والنذالة وممارسة الحرب ، ولو تعارضت السياسة مع الأخلاق أو دهستها بالأقدام .
ووفقا لمكيافيللى، فالحرب هى فن وسلاح وحيد يحتاج إليه كل حاكم، والأمير- الحاكم -ينبغى أن يكون « ثعلبا يميز الفخاخ، وأسدا ليرهب الذئاب»، وعليه أن يفرض الخوف ويدخل البدع بدلا من العادات القديمة، وإذا فرض على الحاكم- الأمير- الاختيار بين أن يحبه الناس أو أن يهابوه، فمن الأفضل أن يخافوه. وعلى الأمير أن يتقن الخداع، وينكث بالعهود، ويخرب المدن الضعيفة، ويدمر كل من يلحق به أذى، وذلك لأن الغاية التى ينشدها المؤلف وهى ايطاليا دولة قومية موحدة وقوية، تبرر كل وسيلة نحو انجازها. ولاتزال الآراء السياسية التى انطوى عليها كتاب الأمير محلا لسجال واسع حتى يومنا هذا، فى مراكز البحث والدراسات الجامعية والكتابات السياسية ،بين من عده رائدا للتنظير لعلم السياسة ولفهم عصر النهضة ، ومن اعتبره تنظيرا يؤسس لحكم الطغاة والمستبدين ولكل اشكال الأنظمة السلطوية !
لم يكن تاريخ الدكتور حسن الترابى السياسى بعيدا بأى حال عن نصائح كتاب الأمير. استغل الترابى الفرص التى اتاحها له استكمال دراسته القانونية لنيل الماجستير والدكتوراه فى القانون الدستورى من بريطانيا وفرنسا واتقانه للغتين الإنجليزية والفرنسية فضلا عن العربية والألمانية، وامتلاكه بجانب إلمامه بالتراث الإسلامى ،ثقافة موسوعية، فى تعزيز قدراته كشخصية كارزمية جذابة، سواء كأستاذ جامعى قادر على تجنيد الطلاب وجذبهم نحو افكاره الدينية، أو كزعيم مؤسس للحركة الإسلامية فى السودان، بمشاركته الفاعلة فى بناء هياكلها التنظيمية ، بدءا من تشكيل جبهة الميثاق الإسلامى، ثم توليه موقع أمين عام جماعة الإخوان المسلمين ،ثم انسلاخه عنها ثمنا لتحالفه مع نظام جعفر نميرى، الذى كان قد شارك أعضاء من حزبه مع أحزاب اسلامية أخرى ،فى محاولة عسكرية مدعومة من القذافى ،لقلب نظامه، قبل أن يندرج فى العام 1977 فى خطة المصالحة الوطنية التى طرحها نميرى على تلك الأحزاب. أمضى الترابى سبع سنوات معتقلا فى سجون نميرى، ومن السجن إلى مشاركته فى حكم السودان ، ولأن طموحه السياسى كان بلا سقف ، وهدفه الأول هو القفز إلى السلطة، فقد برر فيما بعد تحالفه مع نميرى، بأنه كان من أجل تقويض حكمه من داخله ثم الانقضاض عليه. وكشأن جماعة الإخوان فى كل مكان ،استغل الترابى تواجده فى نظام نميرى كنائب عام ووزير للعدل فى توسيع رقعة نفوذ تنظيمه داخل الجامعات والجيش والأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة المدنية ، كما صاغ له قوانين سبتمبر لتطبيق فهمه المشوه للشريعة، التى استخدمت لملاحقة كل اشكال المعارضة لسياسات النظام، بقطع الأيدى وقطع الأرزاق وإعدام الخصوم، وفتح أبواب السجون والمعتقلات، وتشويه الاقتصاد السودانى بالتوسع فى انشاء البنوك الإسلامية، التى كانت مصدرا ولاتزال لتمويل التنظيمات التى ترفع رايات دينية، وانتهى به الحال لتنصيب النميرى إماما للمسلمين. وكان هذا التحالف هو المقدمة الفعلية للانقلاب الذى خطط له الترابى فى يونيو 1989 على الديمقراطية السودانية الثالثة، الذى كان حزبه يتقلد فيها الكتلة النيابية الثالثة فى انتخابات حرة نزيهة، فيما كان هو وزيرا للخارجية.
كان الدكتور الترابى يعتقد ، كبقية تيار الإسلام السياسى، أن الديمقراطية وسيلة فقط للصعود إلى السلطة، يتعين الإطاحة بمبادئها ،لحرمان الآخرين من تداولها، ولأن الترابى يمتلك من القدرات ما يمكنه من التلاعب بالألفاظ والمصطلحات والمسميات، فقد أرجع تخلص نظام الإنقاذ من مشاركته فى الحكم بعد عقد من البقاء فى سدته، إلى مطالبته بالحرية والديمقراطية ومكافحة الفساد، بينما كان هو مهندس سياسات الإنقاذ ومفكرها، وهو صاحب الدعوة للحرب الجهادية فى جنوب السودان التى قادت إلى انفصاله.
وفى سياق رغبته الدفينة فى سحب زعامة الحركة الإسلامية، من جماعة الإخوان المصرية، حول السودان إلى مأوى لكل الجماعات الجهادية الإرهابية من الدول العربية والافريقية والعالم، وأسس لذلك المؤتمر الشعبى العربى الإسلامى، الذى كان منصة لمعارضى الأنظمة وبخاصة العربية ،الذين يلتقون فى دورة انعقاده السنوى، وهوما ساهم فى تكبيد السودان عقوبات دولية مؤلمة.
ولتماهيه مع نصائح «الأمير» طبق الدكتور الترابى المثل الشائع «اللى تغلبه العب به»سواء كان فى أروقة الحكم أو خارجها فى جبهات المعارضة .ففى اعقاب العصيان المدنى العام الذى أطاح بنظام نميرى فى إبريل عام 1985، صار خطابه السياسى عن الديمقراطية والحريات زاعقا ، وعززه بالمشاركة فى الانتخابات العامة ،بعد أن عدل اسم جماعته إلى الجبهة الإسلامية القومية . وبعد أن أسقط النظام الذى كان مشاركا فى حكمه ،بات الاسم جبهة الإنقاذ ، وحين انشق عنها غدا الاسم حزب المؤتمر الشعبى المعارض،لكن الهدف ظل واحدا ، هو العودة بأى شروط للإمساك بتلابيب السلطة. وكان قبل موته المفاجئ قد تخلى عن تحالفه مع قوى المعارضة، وهو يقود دعوة-على أصداء سقوط حكم الجماعة فى مصر – لوحدة فصائل الحركة الإسلامية فى السودان بدعم من الحكومة ،التى سبق أن وصفته بأنه رجل كذاب ومنافق ويغش باسم الدين!
الفرق بين أمير مكيافيللى ،والدكتور حسن الترابى ، ان الأول كان يبرر نصائحه للحاكم ،التى لاتقيم أى وزن للمبائ والقيم والعواطف الإنسانية ، بهدف نبيل هو قوة إيطاليا ووحدتها ، فيما استباح الترابى كل تلك القيم لهدف شخصى هو أن يبقى دائما فى سدة الحكم ، حتى لو كان ذلك على أشلاء دولة، وأشلاء وطن.
امينة النقاش
الوفد المصرية