فرط تشابكهما لم يعد أحد يهتم بالفرق بين مفردتي (قهوة وجبنة)، والثابت أن الأولى هي المشروب المصنوع من البن وبينما الثانية هي الإناء الذي يصنع فيه هذا المشروب، ومن طريف الحكايات في هذا الصدد أن سودانياً (كييف قهوة) سافر لأول مرة إلى إحدى الدول العربية، فاختار أحد المقاهي وصاح في النادل بأعلى صوته (واحد جبنة)، فأومأ له النادل أن حالاً سيكون (طلبه) بين يديه، لكنه هنيهة وفوجئ أن الإناء (الجبنة) فارغ، فغضب غضبة مضرية من النادل معتبراً أنه يسخر منه، لكن الأخير باغته قائلاً: يا زول إنت طلبت جبنة ولم تطلب قهوة، ومهمتي هنا أن ألبي طلبات الزبائن حرفياً.
لكن هذا التشابك السوداني لا يعني أن المجتمع هنا حديث العهد بهذا المشروب السحري، فمنذ قديم الزمان كانت جلسات القهوة أو كما تسمى في السودان بـ(الجبنة) حاضرة في المجتمعات السودانية بكثافة، إذ ارتبطت بالجدات (الحبوبات) وكانت بمثابة متعتهن اليومية يملأن بها فراغهن بـ(الحكاوي) وتقصي الأخبار، ويهتبلنها في تسجيل الزيارات لبعضهن البعض وتفقد الأحوال، إذن فهي جلسات اجتماعية في المقام الأول.
على كل حال، لم تعد (قعدات الجبنة) حصرية على (الجدات) فقد اقتحمها الشباب من الجنسين، وصاورا يعقدونها بطقوسها كافة ويستخدمون فيها آنية مختلفة الشكل والصناعة معدنية، فخارية، وصيني.
ومع شيوع جلسات الجبنة، ازدهرت صناعتها مرة أخرى، لذلك ذهبت (اليوم التالي) لتقصي هذا الأمر والتقت بأحد (الصنايعية) الذي تخصص في صنع آنية القهوة (الجبنات) بورشة صغيرة في منزله بأمبدة الحارة السادسة لنتعرف عن كثب على هذه الصناعة الرائعة – صناعة أواني الكيف.
من القدور إلى الجبنات
يقول نادر بسطاوي إسماعيل: بدأت حياتي المهنية كصانع لقدور الفول، كانت مهنة والدي فعلمني إياها وزرع حبها في داخلي، فابتدرتها منذ سنة 1987، إذ صنعت أول (قدر للفول) من معدن الألمونيوم الذي يتميز بجودة عالية. وأضاف: هذا القدر يحتاج إلى جهد وطاقة كبيرين لأن صناعته تتم يدوياً، دون تدخل آلي، خاصة وأنني حينها لم يكن لديَّ المال الكافي لشراء (ماكينة) لصنع القدور، واستطرد بسطاوي، أنه وفي سنة 1991م، قرر أن يغير تخصصه كليةً فاتجه إلى صناعة (الجبنات)، إذ كان يهوى ويعشق (التخزيف)، ومضى قائلاً: في السابق كانت (الجبنات) تصنع من الحديد والصفيح، وهذا يحتاج إلى وقت طويل ليتم تجميعه، وجهد أكبر لتطويعه وتشكيلة أوانٍ، بجانب أنه قابل للصدأ ما يستدعي تغيير الجبنة بين فينة وأخرى، وأشار إلى أنه وبسبب خبرته السابقة في صناعة القدور من الألمونيوم حاول صنع (الجبنات) من الذات المعدن، وأضاف: بالفعل حدث هذا ونجحت التجربه، خاصة وأن صناعتها من الألمونيوم لا تحتاح إلى لحام كما في حالة الصفيح.
مراحل عديدة
وكشف بسطاوي أن أجمل الجبنات تلك المصنوعة من الطين، لكنها لا تعمر كثيراً، أما جبنات (الصيني)، فلا تستخدم إلا بشكل ديكوري في بعض المناسبات، كما أن تلك المصنوعة من الصفيح سريعة الصدأ، لذلك فالألمونيوم هو المعدن المناسب لهذه الصناعة، وهذا ما أقوم به الآن، واستطرد: صناعة الجبنة (الإناء) تمر بعدد من المراحل فكل جزء منها يتم تصنيعه بطريقة تختلف عن الآخر، أولاً أعمد إلى ما يسمى بتفريغ الجبنة، وهي صنع تلك المساحة دائرية/ التجويف الرئيس أو (قلب الإناء)، وكنت في بداياتي أفعل ذلك يدوياً عن طريق (الدق فقط)، ولكن منذ سنوات خلت قمت بتطوير الأمر واستجلبت ماكينة شهلت على الأمر كثيراً، إذ أنها متعددة الاستخدام، فهي تستخدم للأغراض كافة التي تحتاج إلى تفريغ لأن بها نظام (قلووز) مطور جداً يقوم بعمل الشكل المطلوب، أما بقية الأجزاء، فنقوم في الغالب بدقها ومن ثم تجميعها وإلحاقها بالجزء الرئيس.
حجم الإنتاج
وفي ذات السياق، أشار بسطاوي إلى أنه يصنع يومياً 300 جبنة بمساعدة (الماكينة)، وأنه لولاها لما استطاع صنع (خُمس) هذه الكمية يدوياً، موضحاً أنه لا يستطيع عرض كل هذه الكمية في السوق على مدار اليوم، مشيراً إلى أن بعض أجزاء الجبنة التي يتم صناعتها يدويا مثل (البوز واليد والقعدة) تأخذ وقتاً أطول، خاصة وأنها يتم تجميعها بكبس أجزائها فوق بعض (بالدق)عليها أيضاً.
إلى ذلك، يقول بسطاوي إن هناك من يأتي لشرائها مباشرة من الورشة وما يتبقى من الكمية المنتجة أذهب به إلى السوق لأن (السوق قدح النبي) ولا تخرج منه من غير زبون، وعادة ما أبيعها إلى تجار العدة بالسوق.
أم درمان – فتون صديق – صحيفة اليوم التالي