وأنا أكتب عن الشيخ الترابي للمرة الثالثة بعد أن هيجتني وأرقتني ذكراه وعزّ عليّ أن أصدق أن تلك الحيوية الدافقة وذلك الحضور الكثيف الذي ظل يملأ الدنيا ويشغل الناس على مدى عقود من الزمان قد اختفى وغاب إلى غير رجعة وقرأت كثيراً مما كتب عن الشيخ لكن كتاباتي وكتابات غيري لم تشف ما ألم بي من وجد ولم تعبر عما يجيش به صدري ولم أجد مسلياً ومخففاً ومعبراً عن حزني أفضل مما جادت به قريحة الموجوع د. أمين حسن عمر الذي استطيع أن أتصور مقدار ما أصابه من حزن نظراً لعلمي بما كان بينه والشيخ من حب عكّرت صفوه حادثات السياسة لكنها لم تزله أو توهنه وكان الموت باعثاً للواعج الشوق الذي استحر وزلزل كيانه فأخرج تلك الأبيات الباكية ذاكراً ومذكراً بجلسات التفاكر والتثاقف بين يدي كتاب الله العظيم الذي كان الشيخ يطرب بالغوص فيه ويكاد يتلاشى وهو الذي حفظه وهو صبي يافع .. يقول أمين في بعض أبيات قصيدته حاكياً عن هول المصيبة:
اليوم عاودني الأسى وشجاني
صوت نعاك ليت كان نعاني
يا ساعدي ومساعدي ومثاقفي
ومساعفي من علمك الرباني
أنت الذي أوبت للتوحيد رونقه
الذي قد كان للتوحيد منذ زمان
أنت الذي أعطيت للتجديد معناه
الذي أغناه من علم ومن إيمان
أحييت معنى للشعائر داثراً
وشرحت معنى الحكم والسلطان
ثم يعرج على شانئيه فيقول :
زعموك مبتدعاً لأنك مبدع
فهم الجناة ولست أنت الجاني
صرح الديانة شدته بعزيمة
ورفعت أسقفه على الأركان
والدعوة الغراء أنت إمامها
للنهضة العصماء أنت الباني
حكم الشريعة أنت كنت بصيره
ونصيره بفصاحة وبيان
أشار د.أمين لشانئي شيخ حسن الذين بلغ بهم العداء درجة أن يكفروه وهو الذي كرّس حياته وكتاباته وجهاده واجتهاده لتعميق التوحيد الذي بعث الرسل جميعا للدعوة إليه فاتحاً للمسلمين في عرصاته مسارب جديدة تستجيب لتحديات ومستجدات الأقضية والشركيات الجديدة في حياة الناس فكان أن اجترح لنا وللأمة ونحن في بواكير الشباب ما نذود به عن دين الله في مواجهة الشيوعية وأتباعها الذين أذاقهم خلال مسيرته الدعوية من صنوف الهزائم ألواناً وأزاحهم من ساحات النخب والمثقفين والخريجين التي كانوا يتسيدونها ويمطرون بها الإسلام ودعاته ويعيرونهم بوابل من عبارات التهكم والسخرية ويصفونهم بالرجعية .. أقول خرج علينا وعلى الأمة بعبارات (الشرك السياسي) و(الشرك الاقتصادي) وغيرهما وغاص عميقاً في تلافيف المعاني والمغازي منقباً عن الإيمان وتأثيراته في حياة الإنسان وباحثاً عمّا يعمق التديّن ويسوق الناس نحو المثال الرباني للدين محاولاً أن يزيح كثيراً من المعوقات التي تحد من تديّن المسلمين وتحررهم من بعض المكبلات حتى ينطلقوا في مسارات التطور والنهضة، ولذلك اقتحم علم أصول الفقه باذلاً جهده ومعيداً النظر في كثير من المسلمات القديمة بل دخل باجتهاداته في رحاب الفقه وأصدر بعض الفتاوى التي اعترف أكبر علماء الإسلام من أمثال العلامة يوسف القرضاوي أنه كان فيها سابقاً لعصره بعشرات السنين.
ذلك وغيره كله مما جر عليه كثيراً من النقد الذي بلغ عند البعض درجة تكفيره وهو الباذل عمره في الغوص في دهاليز التوحيد وتجديد التدين وتعميقه في حياة المسلم، وهو الذي هزم أكبر حزب شيوعي في العالم الثالث وأزاحه والعلمانية من الساحة السودانية.
كنت ممن اعترض على بعض أراء الترابي وفتاواه وكتبت مراراً معترضاً ولا أقول إني وغيري من منتقديه كنا على حق فهي اجتهادات مأجور عليها في كل الأحوال إن شاء الله وحتى إن أخطأ فإنها قطرة في بحر صوابه وجهاده وانجازه في خدمة دينه.
د.محمد علي عبدالله الجزولي الذي ظلم كثيراً ونسب إليه ما لم يصدر عنه خرج ببعض المعلومات عمّا واجهه أكبر أئمة الإسلام من إساءة بل وتكفير ولا يتسع المجال للاستفاضة في استعراضها ولكني أقتطف مثالين إثنين حتى يعلم من يشنون الحرب على الترابي حتى بعد أن أفضى إلى ربه كم كانوا قساة عليه.
روى البخاري في تاريخه الصغير عن الإمام سفيان الثوري أنه قال إن الإمام أبا حنيفة استتيب من الكفر مرتين وروي أن سفيان بن عيينة قال لما نعي أبو حنيفة قال : لعنه الله كان يهدم الإسلام عروة عروة .. ما ولد في الأسلام أشر منه وروي عن الليث بن سعد أنه قال أحصيت عن مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قال فيها برأيه، ولقد كتبت إليه أعظه في ذلك واشتهر عن يحيى بن معين أنه كان يقول عن الشافعي أنه ليس بثقة!!!
أليس هذا كافياً أيها الناس لكي نكف ألسنتنا عن رجل بذل كل حياته في خدمة الإسلام حتى بعد أن أفضى إلى ربه؟