بسم الله الرحمن الرحيم
أخيراً… ترجّل المقاتل
بقلم الدكتور/ غازي صلاح الدين العتباني
1932-2016م حياة بمذاق خاص.
رويت في كتابات سابقة، ما روته قصص التراث السودانية، عن المواجهة الملحمية بين الشيخ حمد النحلان وسليمان التمامي قائد “الحربة”، أي الحملة العسكرية التي أرسلها سلطان الفونج إلى وسط الجزيرة بقصد تأديب المواطنين وجمع الضرائب منهم. رأينا كيف أن المعركة بعد أن استهلكت أسلحة الأرض استخرجت أسلحة السماء في مشهد مهول يحاكي مشاهد أشعار هوميروس الشاعر الذي خلّد أساطير الإغريق عن حروب آلهتهم. تلك القصة التي جرت أحداثها في زمن ما في منتصف القرن الثامن عشر والتي ذوّقها الخيال الشعبي المحلي –لا محالة- هي مفتتح مناسب للحديث عن جانب خاص من شخصية الشيخ حسن الترابي حفيد أحد بطلي القصة وهو الشيخ حمد النحلان الذي كان يطلق عليه الناس لقب “أب سماً فاير” لأنه كان –بتعبير عصرنا- زعيم المعارضة العنيفة لسلطان الفونج. وفي كل معاركه اللامتكافئة مع الفونج لم يكن ما يملكه الشيخ حمد سلاحاً مادياً، كان ما يملكه مزاجاً حديدياً وإرادة عنيدة، أهلتاه للانتصار في كل مواجهاته.
اخترت الكلام عن موضوع محدد في شخصية الترابي، لعلمي أن الآخرين لن يقصَروا في رواية أحداث حياته الحافلة بالجوانب والمليئة بالمصادر والمعلومات والآراء، ولا يسعنا في هذه العجالة إلا أن ننتقي بعض الجوانب ذات النفوذ الخاص والأثر في سيرته.
رمزية قصة النحلان والتمامي ودلالاتها ونفوذها على من تعرّف على حسن الترابي، سواءً أكان من أصدقائه، أو أعدائه، أو فقط من معارفه كان نفوذاً قوياً. ولو أنك أجريت استفتاءً صحيحاً بين هذه الفرق الثلاث ممن عرفوه، عن الصفة التي يجتمعون على وصفه بها، لرددوا دون تلبث: إنها صفة “المقاتل” من الطراز الأول.
كون حسن الترابي مقاتل من الطراز الأول وأثر ذلك على كسبه في حياته الخاصة والعامة قد يخفى على كثيرين سوى أولئك الذين خبروا قتاله أو خبروا صداقته. وقد كلفته خصيصة المقاتل الصلب هذه أكثر من عشر سنوات في السجن في العهود المختلفة، لم تكن كلها ضرورية في نظر الذين حبسوه لو توفّر لديه بعض نزوع للمساومة والتراجع. لكنه وقد جبل على ألا يقرأ كلمة تراجع ولا يفهمها. تزداد عنده لفظة التراجع غربة ودمامة إذا صحبها تحدٍ أو استفزاز.
يوصف الترابي بأنه سياسيّ، وأحياناً بأنه مفكر، وأحياناً أخرى بأنه داعية، وكل تلك الصفات فيه بدرجات متفاوتة. لكن جميع تلك الصفات ما كانت لتصنع من الترابي الشخص المعروف بين الناس لو عملت مستقلة عن بعضها البعض. الصفة الرابطة التي جمعتها وهيأتها ونشطتها للمدافعة الحيّة على مدار اليوم والساعة هي صفة القتال، فالوصف الصحيح للترابي إذن هي أنه سياسيّ مقاتل، ومفكر مقاتل، وداعية مقاتل.
الترابي لم يكن مقاتلا بالسلاح، بل هو للغرابة كان يفر من العنف المادّي، وكثير ممّا يتهمه به خصومه السياسيون من إقرار العنف المادي عندما كان متنفذاً غير دقيق. لكن ذلك موضوع خلافي نتجنب الخوض فيه الآن لئلا ننصرف عن لب الحديث. هو كان مقاتلاً بسلاح الحجة والرأي. ولو لم يكن كذلك لما أنجز ما أنجز. ما كان ليتحدى السلطة في أكتوبر 1964، في الندوة المشهورة التي أشعلت الثورة؛ ما كان ليسهم من بعد في إسقاط السلطة العسكرية آنذاك؛ ما كانت الحركة الإسلامية لتنتقل إلى فضاء جديد ومنهجية مختلفة بعد مؤتمر 1969؛ ما كان للحركة الإسلامية أن تساهم مع حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي في تكوين الجبهة الوطنية التي كادت قواتها أن تطرق أبواب القصر الجمهوري عام 1976؛ ما كان ليدخل المصالحة الوطنية تقريباً بشروطه هو كاملة عام 1977؛ ما كان لينقل الحركة الإسلامية من مجرد حزب مثقفين محدود العدد والانتشار، إلى القوة الثالثة في انتخابات ديمقراطية. لم تكن القوة الثالثة فحسب لكنها كانت تتطلع إلى أن تصبح القوة الثانية، بل الأولى، لم لا؟ ففي عالم القتال يتنافس المتنافسون بقدر أحلامهم وبقدر طاقات خيالهم.
روح القتال والمناجزة لدى الترابي من الصفات التي أكسبته جاذبية شخصية قوية وقرّبته من الشباب. وقد ظل قريباً من الشباب ملتزماً نحو إعدادهم وتربيتهم وتأهيلهم على يديه حتى الممات. وكثيرون من هؤلاء تأثروا به تأثراً عميقاً. بل إن بعضهم حاول تقليد اسلوبه بدرجات متفاوتة من النجاح. بعضهم صار مفكراً بغير قتال، وبعضهم صار مقاتلاً بغير تفكير. بعضهم صار داعية بغير سياسة وبعضهم صار سياسياً بغير دعوة، والمعلم وحده احتفظ بالصفات جميعاً حتى النهاية.
من صفات القائد المقاتل الجلد والصبر، تلك الخصيصة التي يبدو أن الترابي تلقّاها في حمضه النووي من سلفه العنيد الذي شغل الأحداث منتصف القرن الثامن عشر. برنامجه اليومي وهو في عامه الرابع والثمانين لم يختلف عن برنامجه وهو شاب حدث. والصبر والجلد ليسا في احتمال المصائب التي لا تحل إلا كل بضع سنين، لكنها لمن يعمل في الشأن العام مكابدة يومية مع الناس وحاجاتهم الأساسية – المشروعة أحياناً – من طلب خدمات من مرافق الدولة أو من السوق، أو طلب أفضال لتحقيق أحلام بشرية ساذجة غير مبررة ولا ممكنة. الصبر على الناس والاستعداد لمقابلتهم كلما رغبوا هم في ذلك كانت من أبرز تجليات صبر المقاتل عنده. كل الذين عرفوه يعلمون أنه متاح لهم في أي ساعة من النهار أو الليل وصلوا، يتلقاهم دون كلل. وعندما قبضت روح الترابي نهار السبت كان قد قضى الجمعة كله ينتقل من منشط إلى منشط بذات البدن النحيل الوثاب حتى الثانية صباحاً، وبعد صلاة الفجر شرع في الكتابة. كان يعلم أنه يسابق الموت، فقد أخبروه في آخر زيارة علاجية إلى قطر أن عضلة القلب عنده قد ضعفت للغاية وأن عليه أن يخفض نشاطه اليومي كثيراً. وإلا فعليه أن يتوقع الموت في أي لحظة. أظنه سخر من قولهم لأنه في الحقيقة زاد من نشاطه وفضل أن يواجه الموت، الذي يأتي لا محالة، مقبلا عليه لا هارباً منه ولا مدبراً. عندماً قرأت في الأخبار أن محاولات تجري لنقله بطائرة إلى ألمانيا للإسعاف نفرت من ذلك الخيار وتمنيت أن تعتذر أسرته عن العرض. دفعتني إلى ذلك أسباب عدة منها أنه ما كان ليرضى بذلك العنت وتلك المناورة التي لا طائل من ورائها في هامش العمر الأخير؛ ومنها أنه، وهو المقاتل الصلب، قد أعد نفسه لتلك المنازلة الأخيرة دون أسلحة إضافية، فقط عراك رجولي صرف بالأيدي حتى الموت، وقتال أسطوريّ محض تجري مشاهده في أطباق السموات كقتال النحلان والتمامي. الطائرة كانت ستفسد ذلك المشهد الختامي، والحمد لله أنها لم تقلع. وعندما التقى الخصمان كانت الأضداد كلها ضد المقاتل الأرضي الذي لم يملك شيئا أمام سنن الله وأحكامه المحتومة على كل ذات نفس. لقد عاركت الأيام والسنون صاحبنا وعاركها، وفي معركته الأخيرة صرعته الأيام والسنون بعد أن تكأكأت على جسده وأعضائه أكثر من ثمانين عاماً، فيالها من صفقة عادلة، لكن المقاتل العنيد لم يخر صريعاً قبل أن يمد أصابعه إلى الأيام والسنون ليحفر آثاراً بارزة على وجهها. وأصبحنا في يوم جديد، بصباح جديد، وليل جديد، وغاب عن أيامنا وساحاتنا شخص فذّ، ومقاتل ضخم، وإنسان بمذاق خاص.
د.غازي صلاح الدين العتباني
6 مارس 2016