المقصود هو رحيل الشيخ الأستاذ “حسن عبد الله الترابي”، الشخصية الأكثر تأثيراً على الساحة السياسية في السودان منذ العام 1964م، والأكثر تردداً على السجون في كل عهود الحكم الوطني، الذي لم تغره السلطة ولا السلطان، ولم يأبه كثيراً أين يكون موقعه.. في بيته لا يغلق بابه أمام زائر كائن ما كان.. أم في مقاعد البرلمان أو رئاسته أو داخل السجون.. أم على رأس الوزارات..!
الذي كان يهم الراحل المقيم هو أن يظل فكره متقداً يصل إلى الناس كافة، تحمله أجنحة الصدق والاجتهاد، يغذيه العلم المتصل ويطير إلى كل اتجاه.
عرفنا جوانب من شخصية الشيخ الدكتور “حسن عبد الله الترابي”، وغابت عنا جوانب أخرى، وللرجل علاقات خاصة مع أبنائه وتلاميذه المقربين، يزورهم ويزورونه، يطرح عليهم أفكاره، فيقبلونها ويقبولون عليها بمنطق أنها أفكار الإمام الذي يجتهد في المعارف وصولاً إلى غاية العلم، ويقود حتى وإن اختلفت آراؤه تلك مع أفكار تابعيه.
في حلقة تلفزيونية مباشرة واستثنائية من برنامج (الصالة) الذي يعده ويقدمه الصحفي الكبير الأستاذ “خالد ساتي”، كنت ضيفاً على فضائية الخرطوم التلفزيونية إلى جانب الدكتور “محمد محيي الدين الجميعابي”، وهو كما يعلم الجميع إسلامي قديم وجرئ ومتمرد، يقول كلمته ويمضي، لكنه لم يتمرد على شيخه، ولم يطلق نحوه كلمة جارحة، عندما تسابق كثيرون إلى ذلك في أعقاب المفاصلة بين الإسلاميين في السودان.
جوانب كثيرة عرفتها خلال ذلك اللقاء من الدكتور “الجميعابي”، وهو صديق قديم من الذين تعرفهم ويعرفونك أوقات الشدة والرخاء.. وقد تحدث عن فترات اعتقال جمعت بينه وبين شيخه في سجون متفرقة بدأت بـ(كوبر) وانتهت في (شالا).. وسجون أخرى.. وكنت أعرف أن الشيخ يجيد لغات عدة.. وكان منطقياً أن يجيد الانجليزية كتابة وقراءة وتعبيراً، فقد درس على مناهج التعليم البريطانية التي كانت مقررة على بلادنا خلال فترة الحكم البريطاني للسودان.. وكان متفوقاً بشهادة من زاملوه، وقد سمعت ذلك من المفكر الكبير الأستاذ “عبد الله زكريا”، وقال لي إن “الترابي” – هكذا كان ينطق اسمه دون ألقاب علمية أو دينية – كان متميزاً حاد الذكاء، لم يعرف عنه أنه درس الفصل الرابع في أية مرحلة من مراحل التعليم.
وكان منطقياً أن يجيد الفرنسية وهو الذي حصل على درجة الدكتوراة من أكبر جامعاتها وأشهرها عالمياً (السوربون) بعد أن حصل على درجة الماجستير من “بريطانيا”.. لكن أين تعلم الألمانية وأجادها..؟ لقد أجاب الدكتور “الجميعابي” على هذا السؤال في تلك الحلقة التلفزيونية (الاستثنائية)، فقد كشف أن الشيخ الدكتور “الترابي” تعلم الألمانية خلال فترة اعتقال طويلة داخل سجن كوبر، وعلمها له معتقل شيوعي كان معتقلاً آنذاك داخل السجن.
الدكتور “الجميعابي” قال إن الشيخ الدكتور “الترابي” لم يكن يضيع الوقت أبداً، وقد كان الكتاب دائماً بين يديه.. وتحت نظره مباشرة.
الآن رحل الشيخ الدكتور “حسن عبد الله الترابي”، وهو أحد كبرائنا في عوالم الفكر والسياسة والقانون وفقيه دستوري عالمي وداعية مجدد، رجل وبعض أبناء جيلنا والأجيال التي تليه يحملونه وأبناء جيله أزمات عصرنا التي نعيشها.. وفي هذا تجنٍ ما بعده تجنٍ على ذلك الجيل الجبار.. لقد مضى رواد الحركة الوطنية وأخذ قطار الموت يلتقط من جاءوا بعدهم.. رحل “عبد الخالق محجوب”، ورحل “محمد إبراهيم نقد”، ورحل بعض دعاة الوحدة والانفصال في “الجنوب” و”الشمال”.. ولازلنا نعيش ذات الأزمات.. بل نزيد عليها أحياناً أزمات ما كان يجب أن تكون.
غداً سيرحل الكبار.. فهل نكبر أم نظل صغاراً يحملون جيل الآباء كل أخطاء الماضي و(جلطات) المستقبل..؟ لابد أن نكون كباراً بقدر التحدي.