ماذا بعد الترابي …؟ (2)

> في غمار الغياب المفاجئ للدكتور حسن الترابي عن المشهد السياسي والفكري والحياة العامة في السودان، وما تتلوه من أحداث وتغييرات في قيادة حزب المؤتمر الشعبي ومواقفه السياسية، لابد من النظر بعمق في ما ستكون عليه أوضاع التيار الإسلامي الذي تنمط بنوع وفاعلية القيادة التي كان يمثلها الفقيد الراحل. فرمزية الرجل وقدراته الفكرية والذهنية ستكون غائبة، وجاذبية شخصيته الآسرة قد اختفت إلى الأبد، الأمر الذي يجعل اقتفاء أثره بكل حيوية ضرب من المحال، فهو لم يكن قائداً سياسياً فحسب، بل عالماً مدهشاً من سمات ومواهب وقدرات كثيرة وهبها الله له، فرحيله بلا شك سيترك فراغاً هائلاً وثقباً أسودَ في الفضاء السياسي السوداني، وستكون لهذا الفراغ امتدادات في العالمين العربي والإسلامي.
> بالنسبة لحزب المؤتمر الشعبي الذي أبدى تماسكاً منذ اللحظات الأولى لوفاة قائده، واستطاع حسم الخلافة بيسر حسب ما تشير لوائحه ونظامه الأساسي، باختيار الشيخ إبراهيم السنوسي أميناً عاماً، إلا أنه بعد أن تنقشع سحابة الحزن، سيجد هذا الحزب أسئلة كثيرة وتساؤلات عميقة تُثار أمامه، فموقف الترابي من الحوار الوطني والوئام الداخلي، ومن النهج التصالحي السياسي العام، كان عن قناعات حقيقية لدى الراحل وتقديراته واستشراف عظيم نظر به إلى المستقبل ومقبل الأيام في السودان، فهل سيستمر الحزب بذات العنفوان والحماس الكبير، وبقوة الدفع التي كان يوفرها الترابي بنفسه للدفع تجاه الحوار، أم أن تيارات داخلية في المؤتمر الشعبي كانت تتوجس خيفة وتتحدث في همس عن الحوار سينتعش من جديد..؟
> وهنا لابد من القول إن الشيخ إبراهيم السنوسي لا يخالف الترابي حياً أو ميتاً، فقد كان شديد الولاء له. فبالضرورة أن يكون شديد الوفاء له أيضا ً، وبيده الآن مقود وموقف الحزب وتوجهاته نحو الحوار وتركها الترابي خلفه، فهل سيمضي بها حتى الغايات؟. التمنيات التي كان يتمناها الترابي ويجلس المؤتمر الشعبي ويقرر مواصلة المسير، أم ستكون هناك مستجدات جديدة.. ويعتقد الكثير من المحللين أن قيادة إبراهيم السنوسي للمؤتمر الشعبي، ستكون في نفس طريق الترابي ولن تحيد عنه خطوة، باعتبار أن قناعات الترابي بالحوار باعتباره الخيار الوحيد المتبقي للجم الأزمة السودانية ومنع تداعيها ومضاعفاتها، هي ذاتها قناعات بقية قيادات الحزب وفي مقدمتها إبراهيم السنوسي الأقرب إلى الترابي والأكثر معرفة بأسرار ومواقف الحزب.
> المعلوم أن المؤتمر الشعبي مثله مثل الأحزاب السياسية السودانية، توجد به تيارات متباينة ووجهات نظر متعارضة حول مواقف الحزب التكتيكية، وربما حتى الإستراتيجية، لكن وجود الترابي في قيادة الحزب حتى وفاته، حجبت تلك التيارات من البروز وغطى عليها بشخصيته الفذة وبردته الواسعة الضخمة ومنع ظهورها، وكان قاسماً مشتركاً أعظمَ بين الجميع من مكونات الحزب، فغيابه اليوم ربما ينعش بعض المتشككين في الحوار فتظهر أصواتهم، فهل يستطيع الشيخ إبراهيم السنوسي مجابهة أي صوت نشاز والاستمساك بإرث الترابي وميراثه السياسي، خاصة موقفه من الحوار ورؤيته للسودان من خلال هذه العملية السياسية المعقدة الطويلة..!!
> قد يبدو هذا الحديث سابقاً لأوانه، لكنه متوقع، فرحيل قائد حقيقي مثل الترابي فجأة دون أن تتاح له فرصة لترتيب الأوضاع من بعده، أو البوح بكل أسراره وأسرار علاقاته السياسية وخطوطه المفتوحة مع عدة جهات وصلاته الرأسية والأفقية مع مكونات العمل الحزبي وانفتاحه الكبير على العالم الخارجي، يجعل من الصعب على خليفته أن يمسك كل الخيوط بكلتا يديه، وينطلق بذات السرعة والقوة، إلا بلطف من الله وتوفيق.
> وكلنا يعلم أن الدكتور الترابي كان يلعب اللعبة السياسية على أصولها وبفنونها كلها. كان يجيد المناورة وله من الدهاء السياسي الذي يجعله يلاعب الجميع في الساحات الواسعة والضيقة، بسعة أفقه السياسي الذي لا يخسر إن أعطى ويكون رابحاً بما يجد. فالمؤتمر الشعبي بفقدانه لقائده، يتوقع له كثير من المراقبين والمتابعين، أن يتراجع ويتقلص دوره، مع أنه للأمانة والحقيقة، حزب منظم ولديه كادر ملتزم وبنيان تنظيمي دقيق ومتين، اذا كانت روح الترابي ظلت تسري في أوصال هذا الحزب في حياته، فإنها بغيابه ستنحسر وسيكون إبراهيم السنوسي في مواجهة التحدي الكبير، حتى انعقاد المؤتمر العام الذي كان يجري التحضير له وأعلن الترابي من قبل أنه سيتخلى عن القيادة خلاله..
بجانب هذا كله يزخر الحزب بقيادات من العيار الثقيل، مثل الدكتور علي الحاج أحد أذكى السياسيين السودانيين على الإطلاق وأكثرهم واقعية. وقد عاد من مهجره بألمانيا، وقد يكون بشكل نهائي، فما الدور الذي سيلعبه من جديد والساحة السياسية السودانية حبلى بكل جديد..؟!!!

Exit mobile version