قبل أيام رأيت امرأة تبكي أمام صيدلية، كانت تصوب عينيها الجزعتين نحو الوصفة الطِبيِّة (الروشتة) وهي مُمسِكة بها بيد مرتجفة، وبالأُخرى كانت تُلصِق الموبايل على أُذنها، وتُحادِث شخصًا تطلبُ مِنهُ أن يتصرف بسرعة، لأن الحالة عاجلة، والنقود التي بحوزتها (قصّرت) حتى خاصمت ركبتي الروشتة.
وهي تتحدث، كنا ـ سائق الركشة وأنا ـ نسترق، فبادر الأخير إلى سؤالها: “قصرت منك كم يا حاجة؟”، خفضت عينيها للحظة، قبل أن تُجيب بصوتٍ حسير مصحوبة بآهة عميقة: “سبعين جنيه يا ولدي”، نظر إلىّ وسألني: “إنت ح تديني كم يا عمك”، أجبت: “خمسة وعشرين”، فقال: “خلاص أديها ليها، ولو عندك تِمّها”، فكان أن نزلت منها دمعة أخرى. تلك دموع حقيقية، فيما نشهد في مواضع كثيرة فائضًا من الدموع الزائفة.
والحال، أن ما آلت إليه البلاد وما لحق بالعباد من أرزاء، يعود إلى أمر واحد، واحد فقط لا غير، اسمه (السياسة)، والسياسة هي فعل بشري شديد التأثير على حيواتنا، تُمارسه قلة منا بتفويض أو بدونه لتعم آثار السالبة والموجبة الجميع، فإما أن تضع على مآقيهم الفرح أو الحزن، وكثيرًا ما ترتكب الأخير.
الآن وهنا، يمكنني أن أقول وأنا مطمئن من كوني لست بصدد مصادرة دموع الآخرين المذروفة على أوضاع بعيدة عن تماسات الحياة اليومية الشاقة كفواتير العلاج والخبز و(حق) فطور العيال والكراسة والمِبرأة وقلم الحبر، والحذاء، ورحيل عزيز. يمكنني أن أقول بأن أي دموع أخرى دون هذه محض ملهاة عبثية، خاصة تلك التي يذرفها من تسببوا في هذه الأوضاع.
بطبيعة الحال، عصّي على أي أحد، أن يعرض لهذه السيرة دون أن تقفز إلى ذاكرته دموع السياسيين المذروفة في مناسبات عديدة، ليس من بينها أحوال الناس البائسة التي تسببوا فيها، فيا لهم مِن مُمثلين يظنون أنهم بارعين فيما يثيرون السُخرِّية والتهكم والرثاء، فتراهم يحثون (عِدِّة) إنتاج الدمع، حثًا ويتوسلون إليها توسلاً، فلا يتركون جفونًا ولا أهدابًا ولا محاجر ولا أحداقًا ولا آماقًا ولا وألحاظًا ولا مُقَلًا إلا وجثوا لها أن دُرّي لنا بالدموع، تلك هي الدموع الفائضة، الدموع المشهدِّية المنقولة مباشرة على الأثير والفضاء.
تصوروا، حتى دموعهم على الراحلين من (حيِّزهم)، تبدو وكأنها مصنوعة بطريقة رديئة، مصنوعة على عجل، (مكلفتة) حدود البلاهة أحيانًا، لكن بعضهم بارع، بارع جدًا ترى دموعه منهمرة وكأنه يبكي حقيقة، وقد تصدقه حد أنك تتذكر بيت الشعر القديم (فَيَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوْقًا إِلَيْهِمْ/ وَيَبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الفِرَاقِ). وما إن ينصرف، وبعد الخطوة الأولى فقط من هذه المشهدية التراجيدية المصطنعة، تجده مُحلقًا بأجنحة الفرح.