أخيرا ترجل الفارس، وتوقفت الأنفاس في ذلك الجسد الطويل النحيل الذي لم يكن يعرف الملل أو الكلل. إنه حسن الترابي، الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طيلة عمره الطويل العريض، وأثرى الفكر الإسلامي بأطروحاته العميقة، وأثار عواصف بمسالكه الجريئة.
وقد حاول الترابي أن يجمع بين ثقافة الشرق والغرب، وبين العلم الشرعي والموقف الشرعي، وبين عمق الفكرة وإشراق الروح. فنجح في الأولى نجاحا مظفرا حيث يعز أن تجد بين عظماء المسلمين في القرن العشرين من جمع بين ثقافة الشرق والغرب بقدر ما جمع بينهما الترابي. وظل كسبه في الموقف الشرعي وفي إشراق الروح مثار جدل دائم.
وقد أتيح لي ضمن عدد وافر من العرب والمسلمين عبر العالم أن أتابع جهد الترابي واجتهاده على مدى عقود، وكان من ثمرات هذه المتابعة أعمال علمية ثلاثة، هي كتابي “الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الإستراتيجي والتنظيمي” وهو دراسة ضافية لمسار الحركة منذ تأسيسها منتصف الأربعينات إلى انقلابها العسكري عام 1989.
وثانيها رسالتي: “آراء الترابي من غير تكفير ولا تشهير” -وكان الترابي رحمه الله- يمازحني قائلا: لو أضفتَ جملة: “وذلك أمر عسيرٌ” إلى العنوان لكان أنسب- وهي رسالة خفيفة تتناول بالتمحيص بعض آراء الترابي المستطرَفة التي أثارت عليه أوساطا تقليدية هو أوسع منها اطلاعا على تراث السلف، وأرحب باعا في التأصيل والتنزيل. ثم كانت الثمرة الثالثة بحثا بعنوان: “فقه الحركة وفقه الدولة: عبرة التجربة الإسلامية في السودان” صدر ضمن كتاب لجماعة من المؤلفين.
ويبدو لي أن لحياة الترابي وجهين: وجه المفكر المبدع المتجاوز لعصره، بعقله الثاقب وأصالته الشرعية وجرأته العقلية، ووجه الداهية السياسي المتجاوز لخطوط كثيرة رسمتها ريشته بالخط الأحمر العريض.
أما الوجه الأول فنجده في كتب الترابي ورسائله التي جمعت بين تجريدات “هيغل” الفلسفية ولغة الشاطبي الأصولية، وكانت إسهاما جليلا في تجديد الدين وفي الفقه السياسي. وهذا الوجه -فيما يبدو لي- هو الأثر الذي سيبقى من الترابي بعد رحيله، بسبب ما فيه من عناصر الاطّراد النظري ومَواطن العبرة الباقية، وما يحمله من العلم النافع الذي لا ينقطع.
وأما الوجه الثاني فسيظل تقييمه أكثر إرباكا لمحبي الترابي، وأكثر قتامة في عيون مخالفيه، نظرا لما فيه من التباس أخلاقي ومكايدات سياسية. وكان طبيعيا أن يشوش هذا الوجه السياسي للترابي على وجهه الفكري. ونحن هنا نحاول أن نعطي الوجهين حقهما، بقدر ما تسمح به مساحة مقال، بدء بالفكري وختاما بالسياسي.
انطلق الترابي من فلسفة في الدين تتمحور حول مفهوم خاص للتوحيد. فالتوحيد عند الترابي ليس مفهوما كلاميا تجريديا وإنما هو فكرة حية يغذيها جهد عملي، وسيرٌ متصل إلى الله تعالى لا يعرف التوقف، وإخضاع للحياة كلها -بمختلف صورها وألوانها- لأمر واحد، هو أمر الخالق سبحانه.
فالتوحيد هنا هو المرادف لمبدأ “شمول الإسلام” الذي نادت به الحركات الإسلامية المعاصرة، وهو إحياء لمفهوم “الإيمان” العملي الذي ألح عليه الصالحون من سلف هذه الأمة، فعبَّر عنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في رسالته إلى عدي بن عدي بقوله: “إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبيِّنها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص” (صحيح البخاري).
وحين كتب الترابي عن الإيمان لم ينح منحى جدليا كلاميا -كما يفعل السلفيون المعاصرون- بل نحى منحى عمليا. ففي كتابه عن “الإيمان: أثره في حياة الإنسان” كان همه منصبا على وظيفة الإيمان، لا على قالبه الفلسفي. وحين كتب عن الصلاة كان تركيزه على المعاني العملية والتنظيمية للصلاة، مثل: الوحدة التي يجسدها اجتماع الناس في المسجد، والمساواة التي يعبر عنها اصطفاف المصلين على صعيد واحد، والنظام الموجود في مبدأ اتباع الإمام وفي تسوية الصفوف، والشورى التي توجد في عملية اختيار الإمام، وفي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن “يؤم الرجل قوما وهم له كارهون.”
وقدم الترابي مقولات منهجية أساسية تدل على حس عملي، وعلى وعي عميق بالزمان والمكان. فتحدث عن التمييز بين “الدين والتدين”، وبين “المثال والواقع”، وكتب عن “سنة المدافعة”، و”تجدد الابتلاءات”، و”ركوب متن حركة التاريخ”، و”استثارة فطرة الخير”، و”تناسخ المبادئ”، و”الانتقال من المبادئ إلى البرامج”.. وغير ذلك من مقولات ومفاهيم لا تخطئ عين الناظر الواعي أهميتها وحيويتها، وحاجة الفكر الإسلامي والعمل الإسلامي إلى استيعابها.
كما حذر الترابي المسلمين من أن “الدين لا يتسوَّف لأنه هو الحياة لله عبر كل الظروف”. فكل توقف تخلفٌ، لأن حركة الزمان لا ترحم الواقفين الجامدين، ولا تنتظر المترددين الخائفين، الذين يعيشون عصرا بوسائل عصور خلت، ولا يميزون بين العنصر الأزلي والعنصر التاريخي في الدين.
وكان الترابي من أعمق المفكرين الإسلاميين إدراكا لظاهرة الخلط بين الوحي والتاريخ في الفكر السلفي بشقيه السني والشيعي، ولمخاطر هذه الظاهرة على مستقبل الإسلام، لأنها تحرمه من مواكبة حركة الزمان، فكتب في نقد السلفيين: “تسمى بالسلفية آخرون يرون الدين متمثلا في تاريخ المتدينين، فهم -بحسن نية- يتعصبون لذلك التاريخ، وينسون أن مغزاه في وجهته لا في صورته، ويقلدون السلف لا في مسالكهم من التدين اجتهادا وجهادا، بل يحاكون حرف أقوالهم وأعمالهم، ويرون الاتباع لا في المضي قدما إلى الله، بل في الوقوف عند حد الأولين ومبلغهم”(الترابي، قضايا التجديد: نحو منهج أصولي، ص 82 ).
م عقَّب مصححا هذا الانحراف المنهجي فقال: “ومهما يكن تاريخ السلف الصالح امتدادا لأصول الشرع، فإنه لا ينبغي أن يُوَقَّر بانفعال يحجب تلك الأصول” (الترابي، قضايا التجديد: نحو منهج أصولي، ص 83).
وإذا كان “الإيرانيون سيدركون في النهاية أن لديهم أعداء غير الأمويين” كما يقول الترابي، فإن السلفيين السنة سيدركون في النهاية أن أمامهم -وأمام الإسلام- تحديات غير منازلة المعتزلة والأشاعرة والمرجئة والصوفية. فما تحتاجه رسالة الإسلام اليوم هو قوم يعيشون تحديات عصرهم، لا الذين تستعبدهم مقولات الماضي ومصطلحاته، وحروبه ولجاجاته.
وفي بحثه عن سر اختلال التوازن في التاريخ الإسلامي بين فقه المبدأ وفقه المنهج، توصل الترابي إلى أن المسلمين “قصروا كثيرا في شريعة الجماعة ونظامها، وذلك هو الجانب الأكثر عرضة للفتنة، حيث يبدأ نقصان كل ملة دينية من تلقائه. ولربما كان انفجار الدعوة الإسلامية بالفتوحات أوسع تطورا من المعالجات الإسلامية النظامية لجماعة المسلمين، فضلا عن أن غياب الحكم الراشد ضيع نظام الجماعة، وغدا التدين تفقها وعملا مركَّزا على الحياة الخاصة للأفذاذ ومعاملاتهم المباشرة، وتضاءلت في الفقه والواقع معاني المعادلة بين الجماعة والفرد، أو النظام والحرية، ونظْم ولاية الأمر العام، وإجراءات الاجتماع والشورى والإجماع، وتراتيب التخصص الوظيفي، وممارسة السلطة، وعلوم الإدارة” (الترابي، الحركة الإسلامية في السودان، ص 59).
وفي تشخيص الدكتور الترابي لأدواء الحركات الإسلامية المعاصرة، وأسباب التعثر في مسيرتها لخص السبب في أن “فقه المبدأ لديها أنضج من فقه المنهج” (الترابي، الحركة الإسلامية في السودان، ص 95). وهي خلاصة دقيقة، تضع اليد على عمق الداء في جملة واحدة. فالحركات الإسلامية تعرف الغاية لكنها تفرط في الوسيلة، تعرف ما لا تريد أكثر مما تعرف ما تريد، “ينصب اهتمامها على إبطال الباطل، لا على إحقاق الحق” كما يقول الترابي نفسه.
أما في الممارسة السياسية فقد حاول الترابي أن يحرر الإسلاميين من صورة ذلك الإسلامي الأبله الذي ينادي بتغيير الكون وهو لا يدرك ما يدور في محيطه القريب، تقوده رغبة بغير عزم، ويحركه حماس بغير خبرة، يشعل الحروب في كل مكان ويخسرها، ويستفز العالم كله، على قلة زاد، وضعف استعداد. لكن مواقف الترابي السياسية غلب فيها جانب الفاعلية على جانب المبدئية، فكانت النتائج كارثية على السودان وعلى الحركة الإسلامية.
ومن المفارقات أن المزالق الأخلاقية التي وقعت فيها الحركة الإسلامية في السودان بقيادة الترابي لم تكن غائبة عن بال الترابي نفسه الذي كتب: “كانت الحركة أحيانا تعارض كيفما اتفق، وقد تَلقى نفسها مفتونة بحمية المعارضة أن تزاود في الحق وتكابر بينما تحب أن يكون ولاؤها بالحق دون عصبية وقيامها بالقسط دون ميل، أو أن تنابذ في الخطاب وتهاتر بينما تعلم أن واجبها أن تقول التي هي أحسن وتدفع بها، أو تشاقق في العلاقة وتهاجر وحقيق بها أن تبشر ولا تنفر وتجمع صف الأمة ولا تفرقه، أو تنافق بظاهر من الموقف وتزدوج بمعاييرها وأولى لها أن تصدق وتستقيم في المخبر والمظهر” (الترابي : الحركة الإسلامية في السودان ص 190).
وكان من الثمار المريرة لهذه الرخاوة الأخلاقية في العمل السياسي أن تمخضت تضحيات الحركة الإسلامية في السودان وجهدها لمدة نصف قرن من الزمان عن حكم عسكري قاهر لشعبه، مقهور أمام الغير، ضحى بالشرعية السياسية بدعوى الفاعلية والسلم الأهلي والوحدة والبناء، فضاعت الشرعية وضاعت معها كل الأهداف التي تم ذبح الشرعية في سبيلها.
وتكمن العبرة هنا في أن التضحية بالشرعية السياسية لصالح أي قيمة أخرى هدم لأساس الاجتماع السياسي، واختلال في الموازين الأخلاقية والسياسية. فالبناء السليم للسلطة هو المدخل إلى الأداء السياسي السليم، والشرعية هي المدخل الصحيح إلى الفاعلية والبناء المتراكم.
كان انقلاب الإنقاذ عام 1989 آخر تجسيد لمنهج الفاعلية على حساب المبدئية الذي انتهجه الترابي في قيادة الحركة الإسلامية في السودان، إذ لم يكن الانقلاب ضد سلطة عسكرية مستبدة، مثل سلطة الجنرال عبّود أو المشير النميري -وإلا لما كان في الأمر التباس أخلاقي- وإنما كان ضد سلطة شرعية منتخَبة، مهما أُخذ على ضعف أدائها، فلا أحد يشك في شرعية بنائها.
وهكذا وقع أكبر منظر إسلامي للديمقراطية وأقوى مناضل ضد الأحكام العسكرية التي تعاقبت على السودان في مفارقة أخلاقية، حين قاد انقلابا عسكريا على سلطة شرعية ديمقراطية، فانتقمت المبادئ لنفسها، وتحول ذلك الاختراق العظيم لجهاز الدولة الذي نجح فيه الترابي، وفشل فيه غيره من القادة الإسلاميين في الدول العربية إلى أكبر كارثة على حركة التغيير التي بشر بها، وربَّى عليها أجيالا من الإسلاميين داخل السودان وخارجه.
كانت خطة الترابي إخراج انقلابه بواجهة وطنية لا إسلامية، ثم التدرج خلال ثلاثة أعوام من “التأمين” إلى مرحلة “التمكين” التي تذوب فيها الحركة في الدولة، وتكشف عن وجهها الإسلامي سافرا، بما في ذلك تسليم العسكريين السلطة للمدنيين، ثم الرجوع التدريجي إلى الحكم الديمقراطي.
كن مرحلة “التأمين” تحولت إلى “تأمين وإعادة تأمين”، واستحالت الحركة الإسلامية إلى أداة قمع في يد سلطة عسكرية مستبدة، لا رؤية لها وراء البقاء في السلطة والتشبث بالكرسي، فانتحر المشروع الإسلامي على أعتاب الحكم العسكري. ثم انشق صف الحركة، وانفصل رأسها عن جسدها، ففقدت الحركة -بفقدان الترابي- عقلا متألقا، ومخططا إستراتيجيا لا يُشق له غبار، وتحولت إلى فلسفة الحكم من أجل الحكم دون رؤية أخلاقية أو مشروع فكري. وفقد الترابي القوة الاجتماعية التي حملت فكره وجعلت منه زعيما سياسيا، ودفع ثمنا فادحا من السجن والتشهير على أيدي مريديه الذين كان ملء أسماعهم وأبصارهم قبل ذلك.
لقد كان في وسع الترابي -بشيء من الانسجام الأخلاقي والموقف المبدئي- أن يطور حركته إلى حزب أغلبية يحكم بالقانون ويحكُمه القانون، أو أن يرضى لها بموقعها جزء من التطور السياسي السوداني نحو سلطة شرعية وفاعلة في ذات الوقت، لكنه ومريدوه استعجلوا الثمرة، فاقتطفوها مريرة المذاق، وأساءوا التصرف في المسؤولية التي تحمَّلوها افتئاتا على شعبهم، وهدموا تراث نصف قرن من تاريخ حركتهم، كان مفعما بالعمل الإستراتيجي والسياسي المبدع.
لقد انتهت تلك الفجوة بين الزاد النظري والممارسة العملية في حياة الترابي وفي مشروعه السياسي إلى مشهد حزين، صوره أحد المقربين من الترابي، وهو الدكتور المحبوب عبد السلام، في مقدمة كتابه (دائرة الضوء وخيوط الظلام: تأملات في العشرية الأولي لعهد الإنقاذ) فقال:
“الأجيال التي كابدت من الناس لم تكن تدري لماذا كابدتْ، والشهداء ماتوا لغير ما هدف واضح.. ما يحدث هو مسرحية من تأليف شيطان هازئ ساخر، وما يحدث هو عين الحقيقة وصميم الجِبلَّة البشرية عندما يستغرقها عنفوان السلطة وسكرته.. شعرة معاوية تنقطع، ويتحول الابتلاء إلى لعنة. وذات الذين نشأوا تحت أعيننا سنوات بُعثوا لاعتقالنا. لحظتنا هي لحظة الحيرة العظمى.. فيكون الشيء ونقيضه حاضران في ذات الوقت، في مخالفة مأساوية لبَدائه المنطق.. هذه الحكومة لم تكن يوما حكومتنا، ولكننا مع ذلك روَّينا شجرتها بدماء غزيرة.. لسنا أول حزب عقائدي انشق على نفسه، ولكن ظننا أن عساكرنا خير من أولئك، وأن لهم براءة في الزبر.. نحن الذين صنعنا قدَرنا ومزَّقنا نسْجنا، ولم تهبط علينا شياطين من السماء، ولكنها شياطين من صنع أنفسنا..
كم فتى منا ولكن ليس منا / يركب الشعب إلى الحكم مطيَّةْ.”
ولا جديد فيما ذكره المحبوب. فكم من وعد خالف في صراع السلطة والثروة، وكم من فكرة عظيمة خذلها حمَلتُها يوم التطبيق.
رحم الله حسن الترابي بواسع رحمته، وتقبل منه ما قدم من عمل سالف وما ترك من أثر باق.
محمد بن المختار الشنقيطي
أستاذ الأخلاق السياسية بمركز التشريع الإسلامي والأخلاق في قطر
موقع الجزيرة