> لم تزل الصدمة تخيم على كل المنتسبين للتيار الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، من هول الخطب الجلل بوفاة المجدد والمفكر والراحل الكبير الدكتور حسن الترابي، الأب الشرعي للحركة الإسلامية الحديثة وقائدها ومفكرها الأبرز، وهو ليس بعزيز على خالقه، كما أن المفاجأة علت وجوهاً وعقدت ألسنة الكثير من مناوئي التيار الإسلامي ومخالفيه داخل السودان وخارجه، فخصمهم العنيد والدرع الذي صد عن الفكرة الإسلامية كل السهام والنصال يغيب اليوم، فالفراغ الذي تركه وراءه فراغ سديمي عريض، سيمتد لزمن طويل حتى يأتي مجدد آخر يبعث في الأمة روح الدين من جديد وينير الدرب لمسيرها الطويل نحو غاياتها الكبار.
> فقد الترابي أمر فادح جلل، لا تصوره حالة الحزن المقيم في النفوس أو الوجوم المرتسم على الوجوه، فالواقع ومستشرفات المستقبل في آمديته القريبة والبعيدة، تضع أمام الجميع تحدياً ماثلاً وشاخصاً حول الدور المفقود بفقدنا الرجل بأبعاده المختلفة، كمفكر لا يشق له غبار، وقائد ضخم وعالم بحر، وسياسي من طراز فريد، وداعية وفقيه تجديدي ومجدد ورمز لا يضاهى ومفسر لكتاب الله، فالترابي لم يكن مفكراً انشغل بالفكر التجديدي الذي لا يختبره التطبيق، ولم يحبس نفسه في ذرى المعارف والتفكير والنظر، ولم يكن متوحداً في صومعة علمه الغزير ومعارفه الكنوز، إنما كان مفكراً وعاملاً وناشطاً لا ينقطع عطاؤه، قضى عمره في مشروع متكامل من النظر والتطبيق والفكر والعمل، ينتج الأفكار وينزلها إلى أرض الواقع متبعاً الفكرة بالأنموذج والتجربة ويقدم الأمثولة والتجسيد.
> مثل هذا الرجل، أنموذج فريد في حركة التاريخ الإنساني، لم يتأتَ في تجارب البشرية لكثير من المصلحين الاجتماعيين والقادة السياسيين والمفكرين العظماء، هذا النوع من المزاوجة الفريدة التي توفرت للترابي بأن يجعل أفكاره تمشي على سيقانها تنافح بسواعدها تناطح بقرونها وتنشب أظافرها في صخور الواقع العملي، دون أن يمل أو يكل أو يتعب أو يستريح مستلقياً على مرقده ينتظر الموت.
> كان يمشي نحو أقداره متوكلاً، ويقترب من موته ويعمل لآخرته كأنه لن يعيش غداً، ويعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، كانت أفكاره والدعوة الإسلامية وتغيير الحياة وتحديثها وصياغتها بالفكرة الإسلامية، هي أكبر همه ومقصداً من مقاصده.
> في كل ضروب ومجالات الحياة كان للترابي رأي وموقف وبديل وإجابات عن تساؤلات وأسئلة عميقة، بجانب إعمال العقل والذهن وتصويبه نحو الأقضية المختلفة التي تتمحور عنده حلولها وأمصال علاجها في لب التصور الإسلامي للحياة الذي كان يؤمن به ويعمل من أجله ووهب حياته له.. لذلك كانت له آراء وأفكار عميقة الغور في الفكر السياسي والاجتماعي وتجديد أصول الفقه، وله مقاربات ومقارنات محيطة بمقتضى ما يكون عليه التدين ومحددات وقواطع الدين.
> ملأ الترابي الدنيا وشغل الناس، لأنه لم يتقوقع في عباءة ضيقة كزعيم ديني، أو قائد سياسي، أو منظر لا يلامس الحياة بفكرته واجتهاداته، فهو قد جمع كل هذه الميزات والسمات في تجربته الطويلة في النشاط العام، مزج فيها بين كل حركاته وسكناته وبين المشروع الذي يدعو ويعمل من أجله، فلا يمكن أن تفصل بين الترابي في حياته وسلوكه وأحاديثه وتعليقاته وسكناته وحركته، وبين ما يدعو إليه عامة الناس، وما حاز عليه من سمات وفضل من الله وهبه له في قدراته الذهنية وحصيلته المعرفية الموسوعية الواسعة.. ودوره في الحياة وتأثيره في التيارات الإسلامية الحديثة وعلاقاته الدولية وقوة حجته ومنطقه، قل أن يتوفر لغيره أو يجتمع لنظراء له وجدوا ما وجد من فرص.
> فالآن بعد رحيل هذا الرجل النادر والمفكر الكبير، يتساءل كثير من أتباع التيار الإسلامي والمنتمين للحركة الإسلامية بمفهومها العريض، عند مفترق الطرق ومنعرجات الحيرة، ما الذي بعد د. الترابي؟
> فالرجل خاض المعارك السياسية والفكرية للإسلاميين بقوة باهرة وشجاعة نادرة وفداء كبير منذ أن ولج حقل العمل العام، ولم ينتعش الفكر الإسلامي في كل مجالاته إلا عندما ملأ الترابي أشرعته بالأفكار التجديدية الجريئة والشجاعة، فتحرك الإسلاميون إلى فهم الحياة برؤى أصولية متجددة، لتأصيل السياسة والتعليم والاقتصاد والثقافة والفن وإعمال مبضعهم في التغيير الاجتماعي ومداواة المجتمعات من أدران التقليد أو الاستلاب أو الانكفاء.. وحرر الترابي العقل المسلم سيما في السودان من القيود التي كانت تربطه إلى أوتاد الطائفيات والولاءات العمياء والخرافات الدينية والسياسية، وترك هذا العقل يسوح في فضاء واسع من التفكير الناضج الحر.
> والآن بعد رحيله ينطفئ وهج الفكر الذي كان يشع من د. الترابي ويدهم خوابي الظلماء وكل خابية دهماء قاحلة، وسيبحث الإسلاميون هنا وهناك عن قيادة ملهمة مثله، بينهم قادة ومفكرون وهناك من سيقود هذا التيار، لكن مجدد ومفكر وعالم وسياسي وعقل استثنائي يستفز العقل للتفكير والنظر، ربما لا يتوفر الآن من بعده بكل يسر وسهولة.