لا أذكر، ربما كتبت من قبل عن هذه الواقعة التي تعود إلى زمن الطفولة الباكر، وربما لا، وما يجعلني أتشكك أنها ظلت تراودني من ذلك الوقت ولا تنفك تذهب وتجيء مضيئة في الذاكرة ساطعة ومتخطية صوراً وأحداثا أجدّ وربما أكثر أهمية من جهة التأثير المباشر على المسار الشخصي. الواقعة تعود كما قلت إلى الطفولة، وقتها كنت طالبا في المدرسة الابتدائية، في الصف الثالث أو الرابع على ما أذكر وبطل هذه القصة – الذكرى، دفعتي وصديقي رغم فارق السن الواضح، فهو كان يكبرنا قليلا، ويبدو أن أسرته تأخرت في إلحاقه بالمدرسة لظروف تتعلق ببعدهم عن المدينة والمدارس فقد كانوا يعيشون قبلا في قرية نائية ومنسية.
هذا الطالب، ولنقل إن اسمه عبد الكريم، كان انطوائيا جدا وقليل الكلام والمشاركة في المناشط المدرسية أو حتى التنافس اليومي في الإجابة عن أسئلة المعلمين خلال الحصص، وقد حاول معلم الرياضة أن يدفعه للمشاركة في فريق كرة القدم لكنه فشل في ذلك. الآن وأنا أتذكر هذه الحالة الانطوائية التي كان يعايشها عبد الكريم ولا بد عانى منها، أفكر أنها غالبا كانت تعود لإحساسه بأنه رجل بالغ وسط أطفال صغار، فهو طويل وقوي الجسد وفي صوته بحة رجولية بينة، كما أن تعثره في نطق العربية، كان سببا آخر قويا دفعه لهذا الانزواء، فهو من قبيلة لا تتحدث العربي ويبدو أنه لم يواجه بهذه اللغة – العربية – بشكل يومي ومباشر إلا في هذه المدرسة.
بشكل ما نمت علاقة صداقة بيني وبين عبد الكريم، وفي لحظات صفاء نادرة كان يحكي لي قصصا تسحرني عن منطقتهم البعيدة، وعن صيد حيوانات أبو شوك وأبنضلاف، والسباحة في الوديان واصطياد أسماك لها شوارب طويلة، ومحاكاة أصوات أبواق اللواري الضخمة، حكايات كثيرة طريفة ومضحكة يزيدها صوت ضحكته المجلجلة – حين نكون لوحدنا – متعة وجمالا، وقد شكلت لي هذه الصداقة غير المفهومة للآخرين مصدر حماية غير مباشر من كل اعتداء طفولي متوقع بمجرد أن يروني مع عبد الكريم العملاق.
في أحد الأيام شاءت المصادفة أن أشهد الموقف الذي ظل يراودني طوال هذه السنوات، كأنه كابوس، أو كأنه وخز دبوس يطعن في عضلة القلب. كان أحد المعلمين يوقف عبدالكريم أمامه ويطلب منه أن ينطق عبارة “علم السودان”، وكان عبد الكريم ينطقها “ألم السودان”، لغياب حرف (العين) من قاموسه اللغوي الخاص، يقول: “ألم” والمعلم ينهال بالسوط على ظهره: “علم يا بليد”، فيردد عبد الكريم: “ألم..”.. هكذا إلى أن تدخل معلم آخر ضاحكا وخلصه من عذاب وألم السوط.
لم أرَ بعدها عبد الكريم في المدرسة، لم ألتقه بعدها قط إلا في صور ذاكرتي المتألمة.. وفي كل مرة أتساءل هل ما زال “علم السودان” “ألم” بلسانه ونفسه وذاكرته؟