جلست إليه في مكتبه المتعدد الحجرات نتشاور ونتجابد أطراف الحديث في أمور شتّى لا سيما مسألة نشر كتبي الثلاث. ألقيت نظرة سريعة على المكان فإذا بالمكتب قد اكتظت أرجاءه بالكتب والأوراق ومسودات الكتَاب التي توحي بجهد جبار ومستقبل واعد. فجأة عرج من قصاصات الكلم إلى قضية خطيرة، قائلا:
– هل تعرفه يا دكتور؟
– لا مؤاخذة … من يا أستاذ هشام؟
– طبيب الموت ؟
– أطبّاء الموت كثر يا صديقي، من تقصد بالتمام والكمال؟ فالسودان يعج بهم وكل دول العرب …
كان يحسب أنني مبرمج على هذا الموضوع، وهذا المنعطف المباغت قد عكس عليّ في تلك اللحظة اهتمامه الوافر بقضية هذا النازي الجبار.
– آسف أقصد الخواجة طارق؟
– للأسف، لا أعلم عنه أي شيء!
– ألم تسمع في ألمانيا عنه وأنه كان كذا وكذا؟
– للأسف لا!
– اسمه الحقيقيّ أريبرت هايم، طبيب نمساوي، كان يحمل الجنسية الألمانية.
– وما به هذا الملعون؟
– هرب من العدالة في ستينات القرن الماضي وجاء وأسلم في الأزهر الشريف وسمى نفسه طارق فريد حسين.
– لا والله! بيد أنني أعرف الكثير عن قصص النازيين: هتلر، غورنج، هملر، لكن هذا الشيطان لم أسمع عنه البتّة.
– عندي طلب منك يا دكتور؟
– على الرحب والسعة يا أبو المكارم!
– أود أن تجتهد في معرفة أسرار هذا الرجل فلابد أن الألمان يعرفوه وقد كتبوا عنه الكثير.
أجبته:
– بكل سرور يا أستاذ أبو المكارم!
(بعدها خرجت من دار أوراق للنشر أجرجر أذيالي إلى الخارج وفي معيتي صديق حميم)
رجعنا أدراجنا أنا وصديقي د. علي العفيفي خلل الظنون نلتمس بين دفات المترو القاهري خطانا إلى الفندق. نتساءل تارة عن هذا اللغز ونتفاكر ممتعضين عن ما بدر منه تجاه خلق الله الأبرياء. هل عاش الرجل حقيقة هنا بين أبناء البلد دون أن يعرفوا له أصل أو فصل؟! هل اعتنق الاسلام باسم طارق فريد حسين عن صدق أم أنه هروب لتضليل العدالة؟ نعم، فمن اعتنق الاسلام يمكن أن يغير اسمه “ويتقمص” هوية جديدة! هل كان كل ذلك “تكتيك” من الخواجة طارق؟
رجعت بعد هذا اللقاء إلى مكان عملي بألمانيا وكم كانت دهشتي كبيرة! عرفت وأيما معرفة أن أربيرت هايم عملاق من عمالقة العمل النازي، وفي شيطنة أفعاله في الطب، الأول دون منازع. وقفت على قصته المثيرة للدهشة إلى حد الذهول. لقد فلت الرجل بأعجوبة من قبضة المخابرات الألمانية والأمريكية من جهة وظلت الموساد تزايله دون لأي باحثة عنه في كل بقاع الأرض من جهة أخرى. من كان يتوقع يا سادتي، أن تكون إقامة هذا الرجل لسنوات طويلة بين أبناء العتبة (قزاز والسلم نايلو في نايلو). حقيقة لم تطارده الموساد وحدها، بل عكف على البحث عليه حفنة من أبناء اليهود ممن ذاقوا مرارة السجن والاضطهاد في المعسكرات النازية أيا كانت. كرّس هؤلاء كل جهودهم ومالهم للحصول عليه حيّا كان أم ميتا. لكن الرجل ذاب في بلاد الله كفص الملح، “ولا من شاف ولا من دري”.
الخواجة طارق أو بالأحرى طبيب الموت النازي أريبرت هايم، رجل ربعة القامة سامقها، ذهبي الشعر، ثاقب العينين، قوي الشكيمة وذو دهاء منقطع النظير. من المثير في الأمر أن صحفية ألمانية من أصول مصرية هي التي قبضت بطرف الخيط واهتمت أيما اهتمام لقصته لا تلوي على شيء إلا والعثور عليه. كرّست جلّ وقتها وجهدها في المكتبات وبين رفوف الأرشيفات الوطنية ألا تضيع عليها في أمره أي صغيرة أو كبيرة. بعد مرور الأيام وبعد فترة دراستها الجامعية عملت كصحفية متعاونة مع النيويورك تايمز ومن هنا بدأت قضية البحث المستميتة عن طبيب الموت الهارب! وكأنها تقول بلسان حالها “وراك والزمن طويل”!
تخيلوا يا سادتي منظر صبية في مقتبل العمر وفي غاية الجمال، حسناء عفراء ممشوقة القوام، رابضة بوسط قاهرة الزحام، بين الباعة المتجولين والمارة وضجيج المدينة. أرى في راحة يديها البضة صورة فتوغرافية، متجولة في ترهات الأزقة وبين الحارات الشعبية، مضحكة بمنظرها الخلق عليها تارة، ومبكية إياهم على حالها تارة أخرى؛ يعطفون، يواسونها من وطأة حزنهم على حالها وعلى استحالة نجاح المهمة العويصة – في اعتقادهم الراسخ – التي هي أمامها. يجولون في هجير النهار معها الأزقة، يحومون حولها ومعها وعليها في طرقات الله الممتدة زنقة زنقة، يترجمون لها، يتوسلون الآخرين بطيبة منقطعة النظير في شأنها، يبحلقون في جمالها يترقبون عينيها الزرقاوين، يرغبونها ويرصدون نظراتها الغربيّة والغريبة على أفقهم الشرقيّ، يتأملونها زوجة، صديقة أو حبيبة، يقودنها إلى هنا ومن ثمة إلى هناك، وفي بعض الأحيان من باب “الأونطجيّة” لا غير. فتصل معهم ملومة محسورة إلى المكان المنشود لكنها لا تجد هناك إلا العدم ومن ثمّة اللاشئ. وهي لا تفتأ في هذيانها هذا إلا أن تزاد قوة وتتأجج صلادة وعزم لا يشوبانهما اهتزاز فضلا عن شكيمة، لا يغشاها تزعزع. صابرة … لم تستسلم. تعرج معهم من ثمّة إلى أحياء أخرى ثم أخرى إلى أن يسدل الليل أستاره على فشلهم، فتعيد الكرّة غدا وبعد غد حتى بلغ الطواف سبعة أيام عجاف.
عجبا، لا تزال تحمل الصورة باحثة فاحصة يقظة باسمة وباكية حالمة في آن واحد. الخواجة طارق، هذا التقيّ الورع الودود، الذي أحب أطفال الحارة وأهلها فأحبوه، وأغدق عليهم النعم من الآيسكريم والشكولاتة فزملوه بدفيء الحياة في عشيرتهم. يأتي محملا بالحلويات يبتاعها من أفخر محلات القاهرة كجروبي. ملك عليهم أم قلوبهم فظل تحت حمايتهم حتى وافته المنية معززا مكرما في معيتهم.
هل كانوا يعلمون أنه طبيب الموت؟ وأنه كان يعذب السجناء إلى أقصى الحدود، وأنه كان يحقنهم بمواد سامة وبالبنزين؟ يغرز في أحشائهم حقنة من هذه الآفات وفي صميم القلب حتى تزهق أرواحهم أمامه، فيقهقه ويفاخر بأعدادهم المنكسرة أمام عنفوانه وسلطته، آمرا إياهم ناهيا متصافقا عليهم دون حرج. فكم لقي منهم مصرعه على يديه الداميتين. يبتسم إليهم، ساخرا يبحلق فيهم ضاحكا، يجلل بصوته ناكرا، حتى عندما تنتابهم سكرات الموت الأخيرة. أهذا هو بربكم الخواجة طارق الذي عرفوه؟ هل هو نفس المخلوق الذي اتخذ غرفة بائسة بسطوح فندق قصر المدينة في حي العتبة مخبأ له؟ لا، لم يعرفوا عنه هذا أبداً! كان يصلي كل الصلوات بالمسجد، يتجول ويتريض كل يوم، يعشق الرياضة، تنس الطاولة، الركض، المشي والتصوير، بيد أنه يكره أن توجه فوهة الكاميرا عليه. يسافر في وجاهته إلى مصايف الاسكندرية الفاخرة، يحتسي كؤوس الكافي أو ليه في جروبي وينهم قطع الجاتوه الفاخرة ببرجوازية خجلة.
هل كانوا يعرفون أنه مطلوب أمام العدالة؟ وأن الموت ينتظره لا محالة؟ فمن قتل مئات الأبرياء عن عمد فمصيره المشنقة، أليس كذلك؟!
من كان يعلم أنه كان يحلق بين السجناء كالنسر وينقض بمخالبه على أجمل أسنان لتزين بعد قتلهم جمجمات موضوعة على طاولة مكتبه ومكاتب الأشرفين من آل النازية؟ وأنه يصطفى الأطفال الأبرياء أيما اصطفاء، يداعبهم في لهو ومرح، يناديهم بود وحميمية، فيقعوا في فخه ومن ثمة يمكر عليهم وهو خير الماكرين؛ ودودا رحيما عليهم عندما يبسط أجسادهم على طاولة الموت، يمنيهم بعطف وأنه يود أن يستأصل منهم آلام كذا وكذا، وفي نهاية اليوم، يحمل من السجناء المغضوب عليهم جثثهم الهامدة إلى أفران المحرقة. نعم، لم يعلم صديقه صاحب الفندق وابنه أن الخواجة طارق إنه قد عاش هذا التاريخ حقيقة ملموسة! وحتى وإن أخبرهم أحد من الناس عنه غير ذلك لتصدوا له بالعصى ودافعوا عنه في قتال مستميت.
يا ليتهم عرفوا عن ثروته وأن له ابنان وفيلا تحفها أشجار الصفصاف الوارفة في مدينة بادن بادن موطن النبلاء؟ وأنه ثري لدرجة لن يتخيلوها، نعم، له من العمارات في برلين والمال ما ينوء بحمله ذوو العصبة أولي القوة.
ليتهم عرفوا أن الجواسيس بحثت عنه مشارق الأرض ومغاربها. نعم، حتى بلغوا دول أمريكا اللاتينية ووجدوا بنتا غير شرعية له. هي لم تره ولم يرها، لكن الصحف لم تدع لها جنبا تنام عليه.
جاءهم أشعث أغبر هاربا من ألمانيا بين ليلة وضحاها تاركا أطفاله نيام، بالسيارة إلى سويسرا ثم إلى فرنسا واسبانيا ثم المغرب ثم تونس ثم ليبيا وفي نهاية المطاف إلى مصر المؤمنة بأهل الله.
كان المطاف الأخير لجبار النازية فندق قصر المدينة في العتبة. عاش من ستينيات القرن الماضي حتى وافته المنية عن عمر يناهز 78 ذلك في عام 1992. شهد شارع بورسعيد بالعتبة زفرات الرمق الأخير من أنفاس أريبرت هايم. دفن في مقابر الفقراء، خوفا من أن ينال أحد الجثة ويتفاقم الأمر . لم يعرف أحد مكان مثواه الأخير بعد أن حمل ابنه الجثة عنوة من المستشفى تاركا لهم خياله، وتاركا للعالم أجمع يوميات أغرب من الخيال.
(تابعوا معنا في الحلقات القادمة)