د. محمد بدوي مصطفى : صيد الأقدار
“اقتلوني يا ثقاتي … إن في قتلي حياتي”
الحلاج
عاودني هذه الليلة الكابوس مجدداً. يداي ترتجفان وحلقي جاف متقرّح. رحت أتخبط بين السرير والمدى الحالك. أحاول جلّ جهدي تبين هذا الذي كان. طفلة صغيرة تتخذ مظهر المتشردة. فناء فسيح ووحدة قاتله. حداءة تحوم فى سماء قاتمة. فجأة تنقضّ على الطفلة. تنهش بمخالبها الجارحة وجهها. وأنا لا أعرف من أكون؟! أحسّ بألم المخالب على وجهي. تحلق الحداءة بحمولتها المعذبة وأنا أتابع ويتواصل الألم الصامت. أرفع وجهي نحو السماء كمن يتضرع، فتسقط الطفلة على وجهي مشوهة وعيناها تنزفان. تلطمني الدهشة والرعب في آن واحد. استيقظ في خوف وبي تلك الحالة .
يوماً تلو الآخر يتكرر هذا الحلم المزعج ولا حيلة لي في الخروج. فقط أفكر اللحظة ماذا يريد أن يقول؟ أنا وصديقي سامي أبناء حيّ واحد؛ نشأنا جيران ولم تكن تفرقنا الأيام بحوادثها، ولا الليالي بخطوبها المتوالية. كنا نذهب إلى المدرسة معا ونعود سويا، نشارك في كل اجتماعيات الحي حتي اسمونا بالسيامين!
عند دخولنا الجامعة اختار هو الفيزياء وكنت أراها أبغض المواد إلى نفسي. فافترقنا كل إلى مجال وإن لم نفترق في غير ذلك.
أحب الأدب بكل أشكاله. أهوى الشعر، أحب التحليق في عوالم الخيال المضيئة. نفسي شغوفة، قلقة وثائرة، بعكس سامي. لأنه كان حكيما، رزينا، به حصافة وذوق. فضلا عن وسامة مضيئة وشخصيّة مؤثرة قوية. كان هو القائد: مركز كل شيء فيما يخصنا. لكنني، والحق يقال، ما كنت أشعر معه بذلك التميز الذي يوليه إيّاه الآخرون. كان بسيطا متواضعا حفيّا صادقا كثيرالوداد.
حدث ونحن على أعتاب التخرج أن جاءت خالتي بابنتها الكبرى لتدرس بالجامعة. وبحكم إقامتهم في أصقاع الشمال البعيدة، كان لزاما أن نستقبلها في دارنا ونفرغ لها حيز لتعيش بيننا كأخت ثانية. أنا الابن الأوسط من مجموع أربعة أشقاء وأخت واحدة لازالت طفلة. المهم، لم تعجبني إقامتها عندنا باديء ذي بدء. لا أعرف لماذا؟ لكن كنت أحسّ نفورا غريبا تجاهها. ما أن تأتي حتى أخرج، وما أن تنظر إليّ حتى أشيح بوجهي!
كانت مَي، ابنة خالتي فتاة ريفية جميلة، صخّابة، كثيرة الضحك والابتسام، مفعمة بأنوثة صارخة. ربما هذا ما لم يعجبني فيها! بدأت أولى خطواتها إلى الجامعة برفقتنا، أنا وسامي. وبحكم دراستنا في ذات الجامعة مع اختلاف التخصصات، كانت ترافقنا في أول أيامها. ساعدناها حتى تألف المدينة في فوضاها وفورانها الغائر. حياة الجامعة مليئة بالتفاصيل! مرّت الأيام تباعاَ وانشغلت أنا بدوامة البحوث والتحصيل. شحذتُ همتي كما ينبغي حتي أتخرج بنتيجة ترضيني وترضي أهلي. لم تتغير علاقتي بسامي كثيراً وإن بدأ كل منّا متباعداً منشغلا فيما يعنيه.
أتت أيام الامتحانات النهائية فانقطعت عن الدنيا في محرابي الداخلي. كان طريقي ينحصر بين بيتنا، مكتبة الجامعة وقاعة الدروس. لا أغيّره إلا لأمر طارئ. أذكر أنه في يوم الإثنين كنت خارجا من بوابة الجامعة الرئيسية أحمل معي أرتال من المراجع والقواميس الثقيلة. فجأة وقع ناظريّ على صديقي سامي. كان قد مرّ أسبوعا بكامله لم أره فيه. على العموم كنت أبرّر ذلك بانشغالي. ناديته فلم يلتفت إليّ. تبدّى الأمر غريبا، لكنني ظننت أنه لم يسمعني. على كل واصلت طريقي نحو البيت خلل الشكوك والظنون وقبل أن أدلف بما أحمله إلى حجرتي، سمعت أمي تتحدث إلى مَي. كان صوتها يبدو غاضباُ؛ ولأول مرّة يأخذني الفضول لأتطلع عمّا يدور بينهما في قسم الحريم بالمنزل. فأبي رجل متدين في تزمت، ريفيّ في تربيته وأخلاقه ويطبّق ذلك بحرفيّة بدارنا. كان بيتنا مفصولا بجدار أسمنتي عريض، يحول بين حجرتنا الملتصقة بفرندا طولية معروشة بالزنك. أمامها فناء صغير ننام أنا وإخوتي فيه بليالي الصيف الخانقة، ثم صالون صغير للضيوف يلتصق بالباب الخارجي. كانت حجرات أمي وأختي ومَي مقابلة للمطبخ والفناء الخلفي، ثم باب منفصل للخروج، مع وجود نفاج صغير بينهما. كنت أحب المكوث جوار أمي وأختي قبل أن تعيش مَي معنا. أساعدهما في كل شيء. أظنها محبة مني أو عطف على حالهما. لم أكن أعبأ بتهكم إخوتي الذكور على رهافتي والتصاقي بأمي وأختي، فضلا عن مكوثي المستديم بينهما. المهم، تغير كل شيء بحضور مَي. بت لا امكث في معّية أمي وأختي إلا قليلا. وهذا الأمر كان يتعبني أيما تعب، يهزني، يغضبني ويطفو في دخيلتي وإن لم أبديه أبدًا لأحد.
على كل، حينما سمعت صوت أمي الغاضب اتجهت في التوّ إلى المطبخ، حيث وجودها وَمي. رأيتها ترتجف متعرقة الوجه. عيونها محمرتان يملؤهما غضب جارف. أمّا مَي فكانت تنوح وتبكي منكسة رأسها. شعرها يتدلى منهمرا على أكتافها دون ترتيب. دخلت سابق إنذار. فلما رأتاني ارتبكتا وصمتتا عمّا كانتا تتحدثان به. (صمت يملأ المكان). سألت أمي:
– في شنو يمة ؟
سكتت مليّا وهي ترمق مَي بنظرة حادة غاضبة. حولت سؤالي إلى مَي:
– الحاصل شنو يا مَي، مالكم؟
انتصبت بينهما ورأسي يدور من هول الدهشة وهن لاتردان عليّ. أعدت الكرّة سائلا فخرجت مَي من المطبخ باكية. أما أمي فاقتعدت الأرض تقلب بين حبيبات الرمل، تنكتها بملعقة في يديها. جلست قبالتها وواجهتها في تحفز، قائلا:
– أنا بسألك يا أمي، مالكم إنتي ومَي؟
أجابت بصوت خفيض محاذر:
– البت دي شالت حالنا عند ناس الجيران. كلهم بقوا في سيرتها. طالعة مع واحد ونازلة مع واحد وبتتأخر لي أنصاص الليالي لمن أسالها تقول لي عندي جامعة ومحاضرات مسائية. أبوك جاني أمس قال محجوب جارنا الملاصق وسليمان المكوجي شافوها نازلة في أول الزقاق من عربية الساعة حداشر بالليل. أنا كنت يومها نايمة بدري بوجع الضهر وماعرفتها اتأخرت. أها هسي سألتها نكرت ولامن قلت ليها برجعك لي أهلك في كريمة قعدت تبكي.
صمتت أمي وقد أرهقها الكلام وبدأ الحزن جلياً على ملامح وجهها المكدودة. أصلًا ألجمتني المفاجأة وأحزنني أننا لم نحافظ على وديعة خالتي لدينا. لُمت نفسي أيما لوم لعدم انتباهي لها ورعايتها وهي الفتاة الغُرّة الساذجة في مدينة أصبحت عنوان للرزيلة.
قمت من فوري ودخلت حُجرة مَي. وجدتها تتحدث على الهاتف بصوت مضطرب. ولما رأتني أغلقته ونظرت نحوي وبقايا دمع يابس لا زال بعينيها. قلت بصوت هاديء حاولت جل جُهدي أن أبدو واثق مما أقول:
– يا مَي إنتي أختي وعندي مسئولية تجاهك، وحاسي فعلاً إني قصرت معاك وما رعيتك ولا حميتك وإنتي مهما كان جاية من بعيد ما بتعرفي أخلاق ناس البلد دي كيف! هسي براحة كدا أنا عايز الموضوع دا ما يكبر وما يصل لأبوك وأمك في البلد، ويمنعوك تواصلي القراية. عشان كدا خليك واضحة معاي، شنو الحاصل؟ والكلام السمعتو عنك دا ؟
نكست مَي رأسها وهي تنصت إليّ بانكسار بيّن. واجهتها بنظرة طويلة فاحصة ولأول مرة رأيتها كأنثى: كائن جميل مغدور به. قالت بصوتها الرفيع الحاد:
– يا محمد يا ود خالتي نعيمة الناس ديل قاصدني. ناس حلتكم ديل ناس متخلفين ساي. أوقفتها بيدي لما عرفتها تحاول المراوغة. قلت بحزم:
– يا حتقولي الحقيقة أو هسي أعمل بي كلام أمي وترجعي لأهلك!
حاصرتها بغضبي وإن فاجأني موقفي هذا. ردت بخوف واضح:
– دا صاحبك سامي!
قلت كمن لم يسمع شيء:
– شنو؟
كررت ردها:
– أنا وسامي متفقين، ولما يتخرج حا نتزوج وقال لي …!
صعقت، دارت بي الدنيا، قامت قيامتي ولم تقعد. صرخت فيها حتى تطاير لعابي على وجهها:
– سامي صاحبي؟ سامي أخوي؟ سامي تومي؟
ازداد خوفها من ثورتي العارمة فقالت محاولة أن تهديء من غضبي:
– ما كان قصدوا وحنصلح الغلطة دي!
أحسست بأن وراء كلامها الأخير مصيبة أعظم مما تخيلته من علاقة نظيفة. فقلت مستطردا:
– غلطة؟!
نكست رأسها وبدأت تبكي بهستريا. عند ذلك الحد لم أستطع تمالك نفسي فصفعتها بقوة. صفعتها بكل غضبي وثورة كبريائي. صفعتها من أجل شرفي المهدُور. صفعتها لحماية نفسي من نفسي المنكسرة. صفعتها لأنها عمقت خيبتي وفشلي في حمايتها وهي في بيتي.
خرجت لا ألوي على شيء إلا مواجهة سامي بهذا الذي كان. ذهبت إليه في بيتهم. لم أجده. سألت أمه فأخبرتني أنه لم يحضر من الجامعة بعد. تذكرت رؤيتي له قرب بوابة الجامعة وفهمت الآن لماذا فرّ من أمامي.
عدت إلى البيت وحاولت أن اتصل برقمه لكنه ظل مشغول الدوائر: ساعات وساعات وأنا أحاول مكالمته ولا مجيب! مرّ اليوم سريعاً غريباً مكفهراً. لم أذق فيه طعم للنوم. ظللت ساهرا أتقلب على فراش من جمر مشتعل حتى أذّن الفجر. خرجت وتوضأت من ثمّة ذهبت إلى مسجد الحي القريب. صليت على عتبة حزني صلاة مودع لا أعلم لماذا انتابني هذا الشعور؟! كان شىء مثل الدخول في حضرة صوفيّة: حالة تشبه الصفاء العميق والتحرر النفسي الخالص. هدأت ثائرة نفسي المضطربة حتى نسيت كل شيء. نسيت فضيحتنا، نسيت سامي. نسيت مَي. نسيت اسمي ورسمي. هززت رأسي وسلمت. حاولت الخروج من المسجد وفي بالي أن أذهب فوراً إلى بيت سامي، عليّ أجده فيحل هذه المصيبة!
قبل خروجي من المسجد بقليل علت أصوات نائحة، ثكل حاد، صراخ نابح، فخرجت مع الخارجين لرؤية مايحدث في الحي. يا للهول! كان جميع سكان الحي الهاديء يهرولون نحو بيتنا؛ رجال بملابس نومهم. نساء حفاة. أطفال عراة. جميعهم يهرولون في جزع. وصلت إلى داخل دارنا، كنت غائباً مغيبًا. حواسي مخدرة. لا أرى، لا أسمع، لا أعرف حتى كيف وصلت إلى داخل البيت. كان المشهد ملاءة سرير. أعرف لونها جيداً. تغطي جسد مستلقي في برندة أمي وأختي ومَي. لم أعرف بالضبط ماذا حدث. فقط أذكر أبي يحوقل وقد علا وجهه غبار. غريب قال لي بصوت مخنوق:
– مَي شربت الصبغة يا محمد والصباح أمك جات تصحيها لقتها ميتة من ليلها!
سقطتُ على الأرض وأنا أضع يديّ فوق رأسي وكل شيء يمور. يفور بفوران الدماء في عروقي. كانت صورة مَي تمرّ أمامي، تثرثر وتضحك في عنفوانها وطيشها ذاك. بكيت بأعلى صوتي، تهدجت روحي. تصدعت كلي بكلي. كنت أنشج في حرقة وألم، وجمع كثير يلتف من حولي وحول إخوتي وأبي. لم أكن أميز الوجوه ولم أعرف من إلى جانبي ومن خلفي. وأنا في إغماءة حزني هذه أحسست بيد أعرف ملمسها جيداً، تمسك ساعدي. صوت كان أليفي لوقت طويل يقول لي في برود:
– البركة فيكم!
حينها رفعت وجهي لأراه في جبروته الزائف، في بروده الخؤون وكأن شيء لا يعنيه. رفعت رأسي ووقفت. حازيته تماماً. قرّبت وجهي من وجهه وبكل ما أملك من قوة ضربته برأسي. كانت ضربتي مباغتة فلم يتوقعها. سقط على عتبة الصالون فانشق رأسه. سال الدم أنهارا وسقى وديان. وأنا أنظر إليه. وجه سامي الآن شاخص البصر! لونه أبيض. الدم يخرج من أنفه يبقبق كأنه شلال ينحدر من أعلى. أفقت من حالة ذهولي على هذا المشهد، فتحول الناس إلى سامي يرفعونه عن العتبة. كانت هرجلة ضخمة تحدث. صخب جارف لا يضاهيه إلا صخب القيامة.
لقد “زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض اثقالها” وأنا كنت أعلم جيدا مابها. دقائق معدودات ونقل سامي إلى أقرب مستشفى. دقائق أخرى وتحول الثكل الحاد والصراخ الى منزلهم. في غضون ساعات استقبلت المقابر جثتين اثنتين، بل هي ثلاث جثث دفعة واحدة.
عند مغيب شمس ذلك اليوم أخذت طريقي إلى زنزانة السجن المحلي. كان أهلي، أهل مَي وأهل سامي جميعهم في حالة لاوعي تام. قد طار خبر جريمتي العظمى حتي أصقاع الشمال البعيدة.
مرّت أيام قلائل وهدأت الأصوات الثاكلة وإن كانت الألسن لازالت تلعك القصص وتدور بالحكايات. ذهبت بملء إرادتي إلى حكم القضاة. قلت لهم:
– قتلت روحي، قتلت صديقي وأليف نفسي وعن سبق الإصرار والترصد.
سألوني:
– لماذا قتلته؟
أجبتهم وكأني أحمي طيف مَي:
– لأني مجرم، أنا قتلت صديقي لأني أحب بنت خالتي وأريدها لنفسي وهي تريده هو، هي قتلت نفسها لما أجبرتها أن تتزوجني.
كانت روايتي محكمة التفاصيل فصدقوني وتمت محاكمتي وفق إعترافي.
طلبت عقوبتي بنفسي. قلت لهم إشنقوني فأنا قاتل لا أريد رحمة من أحد. لم تفلح محاولاتهم جميعا في اثنائي عن رائي.
مرّت الآن ثلاثة أشهر علي الواقعة .
في عصر يوم الجمعة خرجت إلى المشنقة وأنا مرفوع الهامة. كنت أرى قبة السماء بملائكتها تستقبلني في حفاوة. رأيت أشجارا وطيورا. سمعت أغاريد الصبايا. لم أكن خائفا وأنا أخطو إلى الموت بجلال من أدّى مهمته الأخيرة على نحو متقن.
قال الراوي:
هادئاً كان أوان الموت وعادي تماما
وكشمس عبرتها لحظة كف غمامة ….
بقلم: إيثار يوسف
تحقيق ومراجعة: د. محمد بدوي مصطفى
mohamed@badawi.de