الشركات فشلت في نظافة المساحات المحددة في التعاقد بنسبة 80%، مع أنها استلمت مستحقاتها البالغة 67 ملياراً
اتحاد مزارعي القاش: الحكومة الاتحادية مطالبة بالبحث عن 21 ملياراً لم تذهب للغرض الذي خُصصت من أجله
أبوفاطمة أونور: بقاء المتهمين مطلقي السراح يمثل استفزازًا للمجتمع ودعوة صريحة للفساد
بعد أن كاد يطويه غبار النسيان مثل غيره من الملفات التي دارت حولها شبهات ترقي لدرجة الفساد، أعاد والي كسلا آدم جماع مجدداً الحديث عن ملف إهدار أموال إزالة المسكيت بمشروع القاش الى السطح، وذلك حينما طالب أخيرًا في مؤتمر تنمية وتطوير المحليات الشمالية لولاية كسلا بمحاكمة من تسببوا في إهدار 67 مليار جنيه، وعقب حديث الوالي الذي وضع يده على جرح لا يزال ينزف بكسلا فإن الأنظار توجهت نحو وزارة العدل التي ما يزال ملف هذه القضية منذ سنوات في أضابيرها ولم يتم تقديمه للقضاء.
أموال مهدرة
قبل الخوض في تفاصيل هذه القضية لابد من الإشارة الى أن ما يثير التعجب هو أن الأموال التي وجهت من قبل الحكومة الاتحادية وبعض المنظمات مثل الإيفاد تعتبر مقدرة، وكانت كفيلة إذا ما تم استغلالها بالوجه الأمثل بإقالة عثرة المشروع، فالدولة أولت المشروع اهتماماً منذ عام 1993م حينما قامت بتكوين هيئة تنمية وتطوير القاش وضخت في شرايين هذه الأجسام أموالاً يقدرها البعض بالمليارات إلا أن مخرجات الهيئة حتى تاريخ إنهاء مهامها في عام 2003م، كانت متواضعة، وكذلك خصصت منظمة الإيفاد قرابة أربعين مليون دولار وأيضاً ذهبت مع الريح، وكانت الضربة القاتلة للمشروع إهدار 67 مليار جنيه دون وجه حق وذلك في مشروع إزالة المسكيت هذا بخلاف ميزانيات التسيير والتحديث، وواقع الحال بكسلا يشير إلى أن تمدد الفقر سببه الأساس انهيار مشروع القاش الزراعي، حيث هجر المزارعون حرفتهم بعد أن أجبرهم المسكيت على فعل ذلك وسط عجز وصمت مركزي وولائي.
دعوة صريحة
بالتزامن مع حديث والي كسلا، وبدعوته وزارة العدل مراجعة ملفات جرائم الاعتداء على المال العام خلال العشر سنوات الماضية، أعاد المجلس الوطني إلقاء الضوء مجدداً على الكثير من قضايا التجاوزات أو ما يتعارف عليها بالفساد، وبإجازة قانون مكافحة الفساد من قبل البرلمان خيراً، فإن مصداقية الدولة ووزارة العدل أمام امتحان حقيقي ومحك صعب في فتح ملفات قضايا حامت حولها تجاوزات ترتقي إلى درجة الفساد مكتمل الأركان، ومن هذه القضايا التي طوى ملفها الغبار بأضابير وزارة العدل “نعم وزارة العدل” ملف أموال إزالة المسكيت بمشروع القاش البالغة 67 مليار جنيه وجهتها الدولة قبل عشر سنوات “ووقتها لم يتجاوز الدولار حاجز الثلاثة جنيهات” لإزالة شجرة المسكيت التي غطت مساحات واسعة من المشروع الزراعي العملاق بولاية كسلا، وذاكرة الكسلاويين ما تزال تختزن كل تفاصيل هذه القضية التي اعتبر الكثيرون أنها ترتقي إلى مستوى الخيانة الوطنية العظمى، وذلك لأن آثارها الكارثية حاضرة في ولاية تجاوز الفقر فيها حاجز الـ80% فيما تخطت نسبة سوء التغذية معدل الطوارئ العالمي.
امتحان حقيقي
ويعتبر ملف أموال إزالة المسكيت بمشروع القاش بولاية كسلا من القضايا التي ما تزال تحظى باهتمام الرأي العام بالشرق الذي ينتظر وزارة العدل لتفصل فيها وتوضح الوجهة التي ذهبت إليها 68 مليار جنيه، وينظر مراقبون إلى اهتمام الحكومة الأخير بقضايا مكافحة الفساد وتفعيل وزارة العدل لدورها لهذا الملف عبر حسمها للعديد من القضايا التي كانت مثار تعليق واهتمام من قبل المواطنين، وأبرزها ملف شركة الأقطان التي حسمت بإحكام قوبلت بارتياح كبير من قبل الرأي العام، ينظر إليها من زوايا متعددة، فهناك من اعتبر أن فتح هذه الملفات في هذا التوقيت الحرج من تاريخ البلاد أمر لابد منه وذلك لإصلاح أخطاء الماضي، وآخرون نظروا للأمر من زاوية أن الدولة تبدو أكثر جدية في محاربة الفساد والمحسوبية، معتبرين أن هذه هي السياسة المطلوبة في المرحلة المقبلة، بينما يعتقد البعض أن هذه المراجعات الحاسمة التي تقوم بها الدولة فرضتها ضرورة المتغيرات الاقتصادية الداخلية والإقليمية، فيما يشكك أصحاب الرأي الرابع أن يطال الاتهام والجزاء الكبار، وبعيداً عن هذه الآراء المختلفة يؤكد الكثير من المراقبين أن فتح هذه الملفات وتناولها بكل شفافية أمر يحسب للنظام وليس عليه حتى ولو أفضى إلى إدانة بعض منسوبيه صغاراً كانوا أم كباراً، مشيرين إلى أن مثل هذه الخطوات الشجاعة تعضد من ثقة المواطنين بالدولة، محذرين في ذات الوقت من المجاملة والتراجع عن خطوات الإصلاح، لأن ذلك حسب رأيهم يعتبر هزيمة لشعارات الدولة في محاربة الفساد، في وقت يشتكي فيه المواطنون من ضائقة معيشية لم تشهدها البلاد من قبل، يعتبر الفساد أحد أسبابها بحسب خبراء.
عطاء وأرقام
وقضية أموال إزالة المسكيت بمشروع القاش التي مضت أكثر من عشر سنوات على تفجرها، وعلى إطلاق سراح المتهمين فيها بالضمان بعد أن وجهت لهم تهمة إهدار المال العام. وبالتحديد تعود تفاصيلها الى العام 2005، الذي أعلنت فيه إدارة مشروع القاش عن عطاء لإزالة أشجار المسكيت بالمشروع الزراعي، وقد كان من ضمن شروط العقد أن تتم إزالة الأشجار بالآليات الحديثة، ورسى العطاء الذي كانت قيمته 40 مليار جنيه وقتها على شركة الرويان بمساحة 120 ألف فدان، في العقد الثاني لإزالة أشجار المسكيت الذي أعلن عنه في عام 2006 بمساحة تقدر بـ75000 فدان تم تقسيمها هذه المرة بين شركتي الرويان وسويتش، إلا أن نصيب سويتش كان أكثر من الرويان ويقدر بـ 40 ألف فدان، في حين أوكلت المساحة المتبقية من العقد وهي 35 ألف فدان لشركة الرويان.
تجاوزات بالجملة وبلاغات
وبعد أن نفذت الشركتان عمليات الإزالة حسبما أعلنتا، حركت ضدهما إجراءات قانونية بدعوى عدم تنفيذ العمل حسبما جاء في العقدين، لتمر الشكوى بعدد من المراحل الى ان تم القبض على عشرة متهمين اعتبروا ضالعين في تبديد أموال عامة، وذلك بعد أن استندت الجهات القانونية على عدد من الحيثيات من ضمنها الاستماع الى 38 شاهداً، وإلى تقرير أعدته لجنة الخبراء تم تكوينها للتقصي من عمليات إزالة المسكيت، حيث ضمت مدير الغابات في الولاية، وبرفيسور عثمان حسن عبد النور، وأحد المختصين في المسكيت من كلية الزراعة بجامعة الجزيرة، وكشف التقرير عن وجود تجاوزات وخروقات من قبل المتهمين، حيث أوضح التقرير الذي اطلعت عليه (الصيحة)، أن الشركات فشلت في نظافة المساحات المحددة في التعاقد بنسبة تصل إلى 80%، علماً بأنها استلمت مستحقاتها البالغة 67 مليارًا بعد إقرار إدارة المشروع بأداء التزاماتها المبرمة إلا أنه وفي الثاني من شهر يونيو من عام 2011 تم إطلاق سراح المتهمين، وذلك بحسب الشاكي طه محمد موسى الذي كشف أن ملف القضية وطوال هذه الفترة ظل حبيس الأدراج برغم الضرر الذي وقع على سبعين ألف مزارع وإهدار 76 مليار جنيه، ولم يتم تقديمه إلى المحكمة، موضحاً تقديمه استعجالاً إلى المدعي ثلاث مرات برقم المتابعة (99)، واستعجالاً آخر الى وزير العدل بالرقم (4232)، وزاد: ظللت طلية الأعوام الماضية أطرق أبواب وزارة العدل، ولم أجد أي قرار، ولم أكتف بذلك بل خاطبت مفوض محاربة الفساد الطيب أبوقناية، بتاريخ 16 /2/ 2012م، ويضيف في حديثه لـ(الصيحة): طوال السنوات الماضية ظللنا نلهث ونجري وراء وزارة العدل لتقديم القضية الى القضاء، وقد أعلن عشرات المحامين وعلى رأسهم الطيب العباسي الوقوف بجانبنا إذا وضعت وزارة العدل القضية منضدة المحكمة، وقد خاطبنا وزارة العدل أكثر من مرة وكذلك رئاسة الجمهورية، ولكن الإجراءات ما تزال متعثرة وهو أمر يثير الغرابة وذلك لأن المبلغ الذي تم تبديده كبير وكان يجب معرفة حقيقة أين ذهب، وهنا أشير إلى أننا تقدمنا باستئناف ضد شطب البلاغ، وذلك في سبتمبر من العام 2013 عبر المحامي الطيب العباسي وألحقناه بعدد كبير من الاستعجالات، ولكن حتى اليوم لم ترد علينا وزارة العدل وهو أمر يدعو للحيرة والتعجب، وهنا أسأل هل يعقل ألا يتم تقديم من ثبت أنهم ارتكبوا تجاوزات في حق المال العام الى المحاكمة منذ عشر سنوات، وكل الدلائل تؤكد أنهم قد أثروا ثراء حراماً، ولا نعرف الى متى تظل وزارة العدل صامتة ولمصلحة من ترفض تحريك إجراءات هذا الملف، والغريب في الأمر أن بعض المتهمين ما يزالوا يعملون ويتولون مناصب حساسة بعدد من الإدارات بكسلا.
إهدار مال عام
ويرى الشاكي طه محمد موسى عضو رابطة تفتيش متاتيب بمشروع القاش أن كل إمكانيات التنمية الخاصة بمشروع القاش الزراعي أهدرت في عملية إزالة المسكيت، محملاً إدارة المشروع والشركات المنفذة المسؤولية، وقال إن الجهات التي أكدت النيابة ضلوعها في إهدار أموال العقدين يفترض تقديمها لمحاكمة، مطالباً وزارة العدل بإحالة البلاغ الى المحكمة لتدين من تدين وتبرئ من تبرئ، وذلك بحسب طه حتى يتمكن المزارعون من استرداد حقوقهم كاملة قضائياً، وزاد: “هذه الحقوق أثبتت بالبيانات الدامغة الموجودة في المحضر من شهود وتقرير خبراء الغابات وتقرير جهاز المراجعة القومي.
خلوها مستورة
وكان رئيس اتحاد مزارعي مشروع القاش محمد الأمين ترك قد نفى في حديث سابق علاقة اتحادهم بما تم في المشروع والمتعلق بأمر الإزالة، وقال: أستطيع التأكيد أن المشروع لم يستفد من أموال العطاء الثاني إلا بنسبة تقل عن الربع مليار وهي التي وجهت للإزالة ونالها المقاولون نظير المائة جنيه للفدان التي منحتها لهم الشركة بعد تعاقدها معهم، وهناك 21 مليارًا لم يستفد منها المشروع، والحكومة الاتحادية مطالبة بالبحث عن 21 ملياراً لم تذهب إلى الغرض الذي خصصت من أجله، كما أن البحث والتقصي مطلوبان لمعرفة مصير أموال سبعة آلاف فدان وخمسمائة وتبلغ أكثر من اثنين مليار وهي مساحة تمت الإشارة إلى نظافتها رسمياً وبمستندات من المسكيت ولكن على أرض الواقع لم يحدث هذا الأمر، وهو تزوير واضح، ويقول ترك رداً على سؤالي حول مصير القضية الحالية ونهايتها المتوقعة (إذا أثبتت النيابة الاتهامات أتوقع أن يطبق القانون على الصغار، وإذا كان هناك كبار ونافذون ضالعون في الأمر سيتبع فقه خلوها مستورة).
دعوة للفساد
من ناحيته يشير الباحث الأكاديمي والمهتم بقضايا الشرق أبوفاطمة أحمد أونور إلى أن ولاية كسلا آدم جماع دعا من خلال مؤتمر تنمية المحليات الشمالية الذي أقيم مؤخراً، الى أهمية محاكمة من تسبب في ملف إزالة المسكيت بمشروع القاش، وأضاف في حديث لـ(الصيحة) الى أن بقاء المتهمين مطلقي السراح يمثل استفزازاً للمجتمع ودعوة صريحة للفساد، ولفت الى أن عدم معاقبة الذين أهدروا مليارات الجنيهات من المال العام يشجع آخرين على ارتكاب ذات الجرم. وأردف: ينبغي أن يعرف الجميع مصير هذا الملف لأنه لم يتم تقديم أحد للمحاكمة رغم وجود بينات تثبت تورط العديد من المسؤولين، ويقول إن بعض المتهمين الأساسيين في القضية يشغلون حالياً مواقع حساسة منهم من خرج من السجن تحت مظلة شاهد ملك وهذا يعني إقراراً بوجود جريمة، وفيهم من يتولى الآن مهام إدارة حساسة وهذا ما جعل الكثيرين في كسلا يتندرون ويسخرون لأنهم يعتقدون أن في هذا تقليلاً من شأن الخدمة المدنية، والوالي يمتلك حساً أمنياً ويدرك جيداً خطورة وجود أصحاب السوابق في المواقع الحساسة، وبصفة عامة لابد من كشف كافة تفاصيل هذه القضية للرأي العام لأن الأموال المهدرة تخص المواطنين.
صديق رمضان
صحيفة الصيحة