أعتقد أنني خبير في شؤون الأعشاب؛ لأنها كانت تمثل الغذاء الرئيسي بالنسبة إلي في مرحلة الطفولة، فقد كنا نعرف عشرات الأصناف من النباتات النيلية والصحراوية، هذه طعمها حلو، وهذا يسبب الإسهال، وتلك تزيل الإمساك والأخرى سامة، وكانت بعض الأعشاب الطبية المجربة عبر القرون موجودة بصفة دائمة في صندوق الإسعافات الأولية في بيتنا، وكان ذلك الصندوق هو ما يسميه أهل مصر والسودان «السحارة» وهو عبارة عن صندوق خشبي ضخم كان أهلنا يخبئون بداخلها حليهم الذهبية والسلع التموينية المعرضة للسطو من قبلنا نحن الأطفال، وعلى رأسها السكر.
أما الحلبة فهي الغذاء الرئيسي عندنا في السودان للمرأة النفساء أي حديثة الولادة، وتُمنع النفساء من مغادرة السرير طوال أربعين يوماً تظل خلالها تتغذى على الحلبة وعصيدة التمر وبنهاية مدة النفاس تلك تكون قد تحولت إلى كائن يشبه وحيد القرن، فلا يكون من سبيل أمام زوجها إلا أن يطلقها أو يتزوج عليها حفاظاً على سلامته الشخصية.
وقد ثبت علمياً أن الحلبة عالية القيمة الغذائية وتساعد المرأة المرضعة على در حليب يكفي للاستهلاك المحلي والتصدير، وفي مستشفيات الهند يقدمون الحلبة أو منقوعها إلى حديثات الولادة، وفي أمريكا تعطى الحلبة fenugreek في شكل حبوب للمرأة حديثة الولادة قليلة لبن الثدي.
وبما أن زوجتي تجيد صناعة عصيدة الحلبة (يسميها أهلنا في السودان «مديدة») فإنني على استعداد لتوفيرها لمستشفيات النساء والولادة في الخليج بالطن المتري بسعر الكلفة، وتنظيم دورات في إعدادها (تحت إشراف زوجتي طبعاً) بواقع مائة ريال للساعة الواحدة تعزيزاً للتضامن العربي والمصير المشترك الأغبر.
ما فاجأني وأفقدني توازني مؤخرا هو ما سمعته من بعض الإخوة السودانيين عن مزايا البرسيم (الجت) الطبية. وهو نبتة شديدة الخضرة يصل ارتفاعها إلى نحو قدمين أحياناً وإذا زرعتها مرة واحدة، فإنك تظل تقطعها أو تحشها مرة تلو الأخرى فتعاود النمو، وهي بالتالي نبات اقتصادي مفيد جداً للبهائم، أو هكذا كنت أظن إلى أن قال لي أولئك الإخوة: إن البرسيم يخفض نسبة السكر في الدم، ودلوني على شخص تداوى به «لن أستطيع أن أذكر اسمه لأنه يشغل منصباً حساساً قد يفقده إذا ذاع أمر تعاطيه البرسيم».
ذلك الشخص عاقل وراشد ومستنير، وفوق كل هذا فهو فنان ذو ريشة مبدعة، وقد أكّد لي أنه تعاطى البرسيم أخضر، ومجففاً وأنه استغنى عن الأدوية الكيميائية المنشطة للبنكرياس بعد أن تعافى من «السكري» ولو لم أكن أعرفه جيداً وأثق في رجاحة عقله لطلبت سيارة الإسعاف ونقلته إلى المستشفى لإجراء عملية غسيل مخ له كي يتوب عن تناول البرسيم، ولكن من دله على تلك الوصفة العجيبة! أكّد لي أنه قرأ تقريراً طبياً يفيد بأن أبحاثاً أمريكية أثبتت فعالية البرسيم في معالجة مرضى السكر (صاحبي أكل هو وعاد لتعاطي الإنسولين!!)
ثم ماذا بعد؟ هل يستبعد أن أذهب إلى مركز طبي لأشكو من الإمساك كعادتي فيقول لي الطبيب: كل تبن، ومطلوب مني إلا أغضب، بل أتوجه إلى زريبة البهائم للحصول على تبن معقم على أساس أنه يحوي كمية كبيرة من الألياف الطبيعية؟ على كل حال كلام الأطباء على عيني ورأسي، ولكنني أحذر أطباء الحداثة والأعشاب (الهوميوباثي) من أنه إذا أوصاني أحدهم بتناول الكوسا كدواء فلا يلومن إلا نفسه، فما من قوة على الأرض تستطيع إقناعي أن الكوسا التي تعافها الخراف تصلح للاستهلاك الآدمي، وبالمناسبة فإنّ الخراف معروفة بالنهم والدناءة والشراهة وتأكل العلف والكرتون والجرائد، وكل شيء، إلا الكوسا.