لم أقرأ حتى الآن تحليلاً عبقريًّا يفيد بأن بطولة كرة القدم الأوروبية، التي تدور رحاها حاليا، مؤامرة استعمارية أو صهيونية «لإلهاء» أمتنا عن قضاياها المصيرية، مع أنها بالفعل لهت الجميع عن الفلوجة ورفح وحلب والزفت والهباب في مختلف أنحاء منطقتنا وأعمال الذبح والتفجير التي صارت وجبة يومية.
وعلى الرغم من أن ثقافتي الكروية مثل ثقافة شعبولا في الموسيقى والغناء فإنني استرقت بضع لحظات لمشاهدة الفرحة في عيون العرب، وهم يقولون إن فلانا الذي يلعب لنادي زفتدوريا الإيطالي جزائري، ولاعب خط الهجوم في برشمونا الإسباني مغربي، بعد أن لم يعد ممكنا التباهي بالفرنسي زين الدين زيدان، الذي كان محط فخر أمة أدمنت الخيبة والفشل، تعرف أن زيدان هذا «أصلاً» جزائري، يعني بلدياتنا، ويذكرني هذا بفرح المسلمين في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بنجاحات محمد علي كلاي في حلبات الملاكمة فقط لأنه مسلم، على الرغم من أنه كان يخوض المنافسات كأمريكي، ورغم أن الملاكمة رياضة لا أعتقد أنَّ صحيح الإسلام يقرها لأنها تقوم على إلحاق الأذى بشخص آخر، لم يهاجمك في عرضك أو مالك،.. ثم تقاعد كلاي وظهر البرنس حميد وهو بريطاني (نعم بريطاني) من شيفلد بإنجلترا، وصال وجال في مجال الملاكمة، وياما صرع شبابًا أقوياء بقبضته سريعة الطلقات، فعمّ البشر والسرور أرجاء العالم العربي، لماذا؟ لأنه «أصلاً» يمني! ثم انهزم في مباراة ما فعم الحداد أرجاء الحظيرة العربية ودخل اليمنيون في إضراب غير معلن عن العمل فأغلقت المتاجر أبوابها وأحجم الطلاب عن الذهاب إلى المدارس، وجف الحليب في ضروع الماعز!!
كم نحن مساكين.. أنفقنا على الرياضة مليارات لو فرشناها على الأرض لشكلت بساطًا من الورق على طول المسافة من المنامة إلى الدار البيضاء، وعندنا هوس عجيب بكرة القدم بالأخص، يصل إلى حد أن يطرد الأب ابنه من البيت لأنه أهلاوي «مثلاً»، أو يقاطع الابن بيت العائلة لأنّ فريقه انهزم ويخشى أن يعايره بقية أفراد العائلة بالهزيمة، وتشاهد لعب تلك الفرق التي بسببها يتشاجر الناس ويدخلون المخافر والسجون فتعجب كيف يسمح أعضاء الفريق لأنفسهم أن يرتدوا ملابس رياضة لا يعرفون أبجدياتها.
من الواضح من الكلام أعلاه أنني لا أحب كرة القدم، وحقيقة الأمر هي أنني استمتع بكرة القدم الحقيقية، ولكن لا يعجبني الهوس بكرة القدم بين قوم لا يحسنون ممارسة اللعبة. يمكنني أن أتقبل أن يتعصب إنسان لفريق كرة قدم مثل مانشستر يونايتد أو يوفنتوس، ولكنني لا أفهم كيف يدفع إنسان آلافًا مؤلفة ليسافر على نفقته إلى بلد بعيد تخوض فيه فرقة الدراويش التي يشجعها مباراة، ليعود وهو يقول «خسرنا بشرف»،.. ومع هذا فإنني أشجع أصغر عيالي على لعب كرة القدم، على أمل أن يصبح لاعبًا «نُص كُم» فيشتريه أحد الأندية ببضعة ملايين، وأعتقد أنَّه لن يخيب أملي فيه، فقد اختار حراسة المرمى وخاض مباراة العام الماضي كحارس مرمى لجامعته ودخل مرماه 12 هدفًا فقط!!! لا تتهكم عليه، فقد أحرز فريقه 18 هدفًا في مرمى الفريق الآخر، وحدثت قفزة في مستواه.. فعند نهاية الفصل الدراسي قبل أسابيع خاض مباراة ضد فريق آخر ودخل مرماه عشرة أهداف.. ودخل العدد نفسه من الأهداف مرمى الخصم، وما يبشر بأن مستقبله الكروي مضمون أنه عاد إلى البيت في المرتين سعيدًا. دخل مرماه 22 هدفًا في مباراتين ويعتبر ذلك إنجازا!! معنى ذلك أن جيناته الكروية عربية.. وجلده سميك.. لا يحس.. والنصر والهزيمة سيم سيم، طالما «العداد شغال».