عندما كانت الفضاءات مغلقة أمام البث الخارجي، وعندما كانت العيون مفتوحة (زي الريال أبو عشرة) على شاشة التلفزيون السوداني وحيد القناة، كان القائمون على أمر التلفزيون يولون “سهرة الخميس” جل اهتمامهم، وهي سهرة في العادة تسبقها (سهرة أولى) أو (شبه سهرة) في محاولة لإرضاء كل الأذواق المتنافرة والمختلفة، ونحن أهل السودان أصحاب مزاج يصعب إرضاؤه، حتى أن صاحبكم قال للأستاذ “محمد حاتم سليمان”، عندما تم تعيينه مديراً للتلفزيون في اجتماع دُعي له عدد ممن لهم صلة بالعمل التلفزيوني، إن إرضاء المشاهد السوداني صعب وعسير، وإن هذا الأمر يتطلب أن تنشئ قناة خاصة بكل مشاهد!!
تعدد القنوات المحلية مهم لإرضاء أكبر قطاع من المشاهدين حسب اهتماماتهم، فلأهل الرياضة قناتهم وكذلك الحال بالنسبة للذين يهتمون بالدراما أو الغناء أو الثقافة العامة، أو الثقافة الدينية وغير ذلك من اهتمامات تختلف من شخص لآخر أو من مجموعة لأخرى.. ولم يعد الاهتمام منحصراً في سهرات (الخميس) وحدها، وأصبحت المنافسة قوية جداً بين الفضائيات لجذب أكبر عدد من المشاهدين، وبالتالي أكبر قدر من الإعلانات التي هي قوام الإنتاج البرامجي في القنوات الخاصة.
و.. مع ذلك فيوم (الخميس) هو أهم أيام الأسبوع، وأهل اللغة يجمعونه أخامس، وأخمساء وأخمسة، بينما نجمعه في سني عمرنا الباكرة بـ(خمائس)، وهو ما كان يغضب أساتذة أجلاء كانوا يقومون بتدريس اللغة العربية لنا، من أمثال الراحلين “محمد عبد القادر كرف”، و”بابكر دوشين” في المرحلة الثانوية، وأستاذنا “شيخ العجب” في المرحلة المتوسطة الذي كان يسخر من جمعنا لكلمة (خميس) بـ(خمائس) ويقول إنه جمع (تغطيس)!
لـ(الخميس) أهمية خاصة ومكانة عظيمة لدى عموم المسلمين بالإضافة إلى يوم (الاثنين)، فهما من الأيام التي يستحب صيامها، وجاء في الحديث الصحيح عن النبي الكريم سيدنا “محمد صلى الله عليه وسلم” قال: (تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم).
لكن (الخميس) نفسه كانت فيه ممارسات أخرى لا صلة لها بالدين، لذلك كان كبارنا يقولون عنه (الخميس صفقة ورقيص للمطاميس)، وكانت أكثر لياليه لدى (المطاميس) حمراء ظاهر لونها ترتبط أكثر ما ترتبط بالشاعر العربي الكبير “أبو الحسن بن هاني” المشهور باسم (أبو نواس)، الذي نحسب أن الناس لم ترد أن تعرف عنه سوى خمرياته بينما ديوانه حافل بالإيمان العميق، وقد كان من حفظة القرآن الكريم، وكان ضليعاً في علوم الفقه حسب ما ورد في بعض الكتب.. وكان صاحبكم يتخيله سودانياً صميماً، خاصة وأن عين صاحبكم قد وقعت على أبيات له يقول فيها:
بلاد نبتها عشر وطلح * وأكثر صيدها ضبع وذئب
ولا تأخذ عن الأعراب لهواً * ولا عيشاً فعيشهم جديب
دع الألبان يشربها رجال * رقيق العيش بينهم غريب
إذا راب الحليب فبُل عليه * ولا تحرج فما في ذلك حوب
وكان صاحبكم يقول لنفسه إنه إذا بال رجل على اللبن الرائب فإنه قطعاً من فعل السكارى.. قطعاً نحن ظلمنا “أبو نواس” مثلما ظلمه التاريخ بالتركيز على جانب واحد من حياته، رغم توبته النصوح في أخريات عمره وشعره الإيماني الرقيق الذي يسيل الدمع.. ويسكن القلب.