* صارع القضبان والمنافي والغربة وتقلبات الحياة والمرض ليقف كالطود شامخاً في وجه الرياح والأعاصير.. عبقريته الفنية لا خلاف عليها ونبوغه الغنائي لا يقبل القسمة على الجدل، فتاريخ الفن السوداني يظل واحدا منقوصاً لا يكتمل إلا به!!
* المتتبع لروائعه المختلفة، والمتأمل لعزيمته الفولاذية في مواصلة مشواره الفني رغم وصوله لـ(سن الاكتفاء) يدرك حقيقة أن القمم لا تعرف التوقف في (محطات الوصول) وتظل تعطي بلا حساب؛ وتتدفق بلا حد حتى لو اعتلت سدة عرش المجد!!
* ظل الفنان الراحل المقيم محمد وردي بكل تاريخه العامر يقاوم المصاعب طيلة حياته، وينسف العقبات، ويهد المتاريس، ويتغلب على الظروف، ويقاوم عوائق الزمن، ويغني في حفلات جماهيرية عامة، ويشارك في كافة الاحتفالات التي تتم دعوته لها رغم ظروفه الصحية، فالرجل كان يكتسب حيوية أنفاسه من تدفق غنائيته، كما أنه ظل مهموماً بالقضايا العامة بمختلف درجاتها وتباين أهميتها، لذا لم يكن غريباً عليه الوجود في جوبا لحضور احتفال إعلان دولة جنوب السودان بعد الانفصال بدعوة من حكومتها آنذاك، فقد شارك وردي أشقاءه الجنوبيين فرحتهم بميلاد دولتهم الجديدة رغم الأسى الذي يعتصر ضلوعه والغصة التي تطعن في حلقه كنصل سكين حاد!!
* كانت مشاركة وردي أفراح الجنوبيين برفع علم دولتهم الجديدة مثار جدل؛ وتباينت الآراء حولها ما بين رافض لها ومؤيد، وأذكر أني تجاذبت حينها أطراف الحديث مع فنان أفريقيا، وحاولت التوقف عند وجهة نظره والأسباب التي دفعته للمشاركة في احتفالات جوبا، وكيف يرى الانفصال؟.. والسيناريو المتوقع بعد تلك الأحداث العاصفة!!؟
* لم ينكر وردي حالة الإحباط التي تلف الجميع إزاراً ورداء رغم فرحة عدد كبير من الجنوبيين بإعلان دولتهم رسمياً قبل حوالي أربع سنوات، لكنه لم يجد مبرراً لفرحة بعض الشماليين بانفصال الجنوب، وقال إن (ضبيحة التيران) – في إشارة لمنبر السلام العادل – تمثل قمة الاستفزاز وليس فيها ذرة من الواقعية، فهي سلوك منزوع من كافة القيم الإنسانية والسياسية والسودانية، ودلل على رؤيته تلك بقوله: (إنت الليلة جارك لو رحل بتبكي عليه وما بتفرح حتى ولو كان جارك فرحان لأنو مشى إلى (بيت ملك).. حتقول يا حليلو.. والله فقدناهو.. ومافي منطق بخليك تعلن فرحتك بالرحيل)!!
* لم تذبل أوراق التفاؤل عند محمد وردي برؤية (وطن واحد) رغم إعلان انفصال جنوب السودان رسمياً، ففنان أفريقيا كان يرى أن المستقبل سيعيد (الخريطة) لشكلها القديم، وأن الفرحة التي تسيطر هنا وهناك لن تستمر طويلاً، فبعد مرور الوقت سيفكر الطرفان بعقلانية أكثر بعد أن يعيشا الواقع الجديد وستحدث (وحدة ما بعد الانفصال).. ومضى وردي في حديثه قائلاً: (ستنتهي المرارات القديمة والترسبات بمرور الوقت وسيبدأ التفكير في الوحدة من جديد بعد انقضاء فترة الأفراح، و”بس تفك السكرة بتجي الفكرة”).!!!
* أبدى وردي دهشته من إعلان بعض الفنانين فرحتهم بالانفصال، وقال إنه لا يوجد فنان حقيقي يتمنى لبلده التجزئة أو يقبل مبدأ التفريق بين الناس، لأن ذلك لا يتسق مع رسالية الفن ومفهومها الداعي للحق والخير والجمال، وأضاف: (لابد للفنانين أن يدركوا تلك الحقيقة ويستوعبوها جيداً، لكن “منو البعلق الجرس في رقبة بوبي”).!!
* طاف بي وردي في مواضيع مختلفة قد يراها البعض غير ذات جدوى، وأكد أننا لم نستغل تنوعنا الثقافي بشكل جيد، الأمر الذي أسهم في رسم الصورة التي وصلنا إليها، وقال إن هناك عدداً كبيراً من الفنانين لا يعرف (إيقاعات الجنوب) مما أحدث حالة من الغربة الفنية داخل القطر الواحد، وعندما قلت له نريد منك توجيه رسالة لأهل السياسة عن الواقع الذي نعيشه آنذاك والتحديات المقبلة ورؤيته المستقبلية لما ستسفر عنه الفترة القادمة، رد قائلا: (خلي الموضوع دا شوية كدا لأن الرأي الذي يمكن أن يقوله المرء الآن لن يكون موضوعياً مائة بالمائة وسيكون تحت تأثير الحالة الآنية، لكن بعد قراءة الأحداث سيكون الرأي موضوعياً وستختمر وجهة النظر من خلال تبعات ما حدث الآن).!!
* تلك كانت بعض وقفات وشيئا من اجترار مع سيرة (وردي السياسي) المليئة بالاعتقالات والسجون والترويج للشعارات والشعارات المضادة، للتعرف على كيفية قراءته للأحداث وتحليله للوقائع من حوله ونحن نقرأ جوانب من مسيرته بمناسبة الذكرى الرابعة لرحيل فنان أفريقيا الأول؛ وعظمة (أبو الورود) تكمن في أننا كلما أعدنا قرءاة حرف قديم له تكثف فقده من جديد..!
نفس أخير
* ولنردد خلف الراحل محجوب شريف:
حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي..
وطن شامخ وطن عاتي.. وطن خيِّر ديمقراطي..!