أصبحت “سعاد” ذات السبعة عشر ربيعاً حديث القرى وبادية العرب بجمالها الذي يسحر الشباب، وهام بها كل الناس، ذهبت والدتها لـ(فكي) قادم من أقاصي غرب السودان لكتابة (تميمة) تحميها من عيون الناس.. فكر والدها في قطع دراستها لتبقى بالقرب منه حفاظاً على جوهرة ثمينة.. مدير المدرسة الثانوية تمنى في سره أن تخرج “سعاد” من المدرسة بعد أن أصبحت عبئاً على المدرسة من عيون الفضوليين.. غيرة الزميلات.. حتى المعلمات يتصيدن أخطاءها.. كانت متوسطة الذكاء، لكن جمالها الطاغي يغطي على كل شيء.. تهافت عليها الشبان، وقبل أن تجلس لامتحان الشهادة الثانوية جلست في كرسي الزفاف تخطفها ابن عمها القادم من اغتراب قصير بدولة ليبيا انتهى بغروب شمس “القذافي”.. يوم زفاف “سعاد” امتزجت دموع الفرح بدموع الحزن.. حتى رمز السلطة والحكم كان حاضراً في يوم الزفاف الكبير.. انتقلت “سعاد” لأحد أحياء مدينة لقاوة بغرب كردفان، وظل زواجها وجمالها وأدبها حديث القرى والحضر.. حتى حملتها في يوم ماطر مع بدايات الخريف سيارة إسعاف لمستشفى لقاوة لتضع مولودها الأول.. والدتها من بين الجزع والخوف من الولادة الأولى وما بين الفرح لرؤية فلذة كبدها تحتضن طفلاً لتشرق به شمس السعادة في بيتها.. كانت “سعاد” (تتأوه) من شدة مخاض الولادة وزوجها يجلس على المقعد الأمامي حينما دخلت سيارة الإسعاف لتخرج بعد لحظات لأن الطبيب الوحيد قرر نقل “سعاد” لمستشفى الأبيض نظراً لوضعية الجنين التي تتطلب إجراء عملية جراحية يستحيل إجراؤها في كل ولاية غرب كردفان.
أسرع السائق في تعبئة وقود الإسعاف وأطلق صافرة الإنذار مسرعاً نحو الأبيض.. كل من كان في المستشفى من المرضى ومرافقيهم يدعو لـ”سعاد”.. لم تمض (6) ساعات إلا وعادت سيارة الإسعاف للمستشفى مرة أخرى تحمل جثة “سعاد” التي انتظرت ساعات طويلة مرور المياه المتدفقة من أعالي الجبال على خور (تمبا) الذي (يحجز) السيارات لأيام وليالٍ، ويجعل من لقاوة منطقة لا يمكن الوصول إليها.. (ماتت) “سعاد” لأنها لا تستطيع الوصول للأبيض حيث المستشفى والاختصاصيين وخور (تمبا) يفرض سطوته على الجيش والشرطة وحكومة الولاية.. وقصص وحكايات عن الأرواح الشريرة التي تسكن مياه الخور.. وكيف أن العشرات ماتوا في حوافه وأطرافه.. تلك القصص يجيد الأستاذ “حمدان أحمد ضحية” الشهير (بحمدان أبو شنب) روايتها وقلبه يقطر دماً.
عند زيارة الأمير “أبو القاسم الأمين بركة” الوالي الشاب القادم من داراندوكا لديار المسيرية مدينة لقاوة وكانت صيوانات الإضراب السياسي منصوبة في قلب لقاوة، وتنامي المعارضة هي الظاهرة التي (أقلقت) حزب المؤتمر الوطني، بدت الحسرة على الوالي كيف يموت الناس بسبب (50) كلم هي طريق (لقاوة- مينقو) وثلاثة جسور من شأنها تحطيم أسطورة الجن الذي يسكن مفاصل (الخيران) ويهلك البشر.. و”سعاد” واحدة من ضحايا ذلك الوادي المجنون.
أمس بدأت آليات تشييد الطريق تصل ولاية غرب كردفان والحكومة دفعت (120) مليون جنيه لتشييد الطريق، ووزير المالية د.”آدم محمد آدم” يوقع على اتفاق آخر لتشييد الطرق الداخلية بمدينة النهود بقيمة (7) ملايين جنيه.. لكن مأساة “سعاد” جعلت الوالي يحصل من المركز على (4) مليارات لمستشفى الفولة المرجعي.. لأن “سعاد” لو لم تمت بسبب ساعات انتظار انحسار مياه خور (تمبا) لماتت بسبب بعد المسافة بين لقاوة والأبيض.. بعد شهور من الآن يصبح بعض سكان محلية شيكان بشمال كردفان يختارون السفر جنوباً لتلقي العلاج في الفولة بدلاً عن الأبيض، لأن المستشفى المرجعي هناك الأفضل في كردفان شمالها وغربها وجنوبها.